والجهاد يفقد روحه، وهو الإخلاص، ثم يتحول انتهابا للغنائم، واستعبادا للأحرار. ثم تفتر حدته، ثم يبطل ...
والصيام ينتهي من صبر على الحرمان، وتأديب الغرائز المتطلّعة، إلى استعداد للولائم، ومضاعفة للنفقة ...
والحكم يتطوّر من خدمة الجمهور برضاه، إلى تألّه عليه عن بغي واستكراه، ثم يسقط ويضيع الحاكم والمحكوم معا.
وحتى محبة المسلمين لرسولهم صلى الله عليه وسلم تتحوّل بعد موته إلى سوق حول قبره تضج بالصياح المنكر والهمهمة الحائرة.
عند ما زرت المدينة توجّهت إلى قبر الرسول الجليل صلى الله عليه وسلم، وكانت المشاعر التي تنبعث من قلبي تطنّ في أذني، فلما تبيّنات لي معالم الضريح يمّمت شطره وأنا أتضاءل في نفسي، وكأني كرة تتدحرج تحت أقدام عملاق ...
وسلمت بالعبارة التي شرع الله، لم أزد عليها إلا بيتا من الشعر لم أدر ما وراءه، لما عراني من اضطراب غمغمت به شفتاي ولم تسمعه أذناي:
يا خير من دفنت في التّرب أعظمه ... فطاب من طيبهنّ القاع والأكم
ثم انصرفت ...
بيد أني لاحظت أمواجا تفد فتصرخ بكلام طويل؛ هذا يقرأ في كتاب، وهذا يسمع من حافظ، وهذا يشوّش على ذلك، والكلّ يشوش على المصلّين، وتتواكب هذه الوفود في هرج ومرج لا ينقطعان.
ألم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يعني تلك الحال عند ما قال:«اللهم لا تجعل قبري بعدي وثنا يعبد» ؟! «١» .
وما أن تعرفت أحوال العاكفين في المسجد والبادين، حتى كدت أدع الصلاة فيه، فإنّي أكره أشدّ الكراهية البدع والفوضى والجهل.
وتذكّرت قصة عروة بن الزبير لما بنى قصرا بوادي العقيق، وابتعد عن المدينة، فقال له الناس: قد جفوت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم!! فقال: إني رأيت
(١) حديث صحيح، أخرجه أحمد: ٢/ ٢٤٦؛ وابن سعد في الطبقات: ٢/ ٢/ ٣٦، من حديث أبي هريرة، وسنده صحيح.