إنّ الرجل الخبير بالأسواق لا يلبث- بعد استعراض يسير لأحوالها- حتى يصدر حكما صائبا عليها، والخبير بطوايا النّفوس يستطيع من نظرة خاطفة أن يستشف ما وراءها، ويستكشف خباياها، ومن ذلك قول الشاعر:
والألمعيّ الذي يظنّ بك الظنّ ... كأن قد رأى وقد سمعا
وكان محمد عليه الصلاة والسلام خبيرا بالنفوس ومعادنها، والدنيا وأطوارها، والزمان وتقلّبه، والأديان الأولى وما عانت وعانى رجالها وهم يشقون طريقهم في الحياة، وعقول الأنبياء من ورائها فطر مجلوة، وإلهام لمّاح، فكيف بشيخ الأنبياء الذي تعهده القدر من نشأته ليحمل رسالة معجزتها في أسلوبها، وأسلوبها يقوم على ترقية الفطر وتفتيق الألباب!!.
إنّ هذا يجعله أشد الناس تقديرا للواقع، وانتظارا لما يفد به، هل يستطيع السائر في مناطق الشمال أن يقدّر خلوّ الجوّ من الضباب الداكن؟! أو هل يستطيع السائر في مناطق خط الاستواء ألا يتوقع عواصف القيظ؟! فكيف يليق بصاحب دين خطير أن يتناسى الفتن العارضة لتعاليم دينه ولرجاله، ما قرب منها وما بعد، ما ظهر منها وما بطن؟!.
لذلك كثر كلام الرسول صلى الله عليه وسلم عن الفتن، وليس القصد الإخبار عنها، بل التحذير منها؛ تحدّث عن الفتن التي تلحق الأشخاص من اختلاف أفكارهم وتنافر أمزجتهم، وتحدّث عن الفتن التي تصيب القلوب من إقبال الدنيا والتحاسد عليها، وتحدّث عن الفتن التي تصيب الأمّة بعد أن يثوب الكفر من هول الهزائم التي مني بها، ويتماسك مرة أخرى بعد ما انحلّت عراه، فكان أن خوّف أصحابه من ذلك كله في أحاديث يطول سردها.
وأخطر هذه الفتن ما يصيب تعاليم الإسلام نفسها من ذبول واضمحلال.
فالصلاة تفقد روحها، وهو الخشوع، ثم يتاكل جسمها فتتحوّل نقرا سخيفا.