[ذكر جابر لأفعال النبي في يوم الثامن والتاسع والعاشر من ذي الحجة]
قال: [وروى جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم الحديث إلى أن قال: (فحل الناس كلهم وقصّروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم، ومن كان معه هدي، فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج، فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها -أي: بمنى- الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر فضُربت له بنمرة فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت بنمرة فنزل بها حتى إذا زالت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي صلى الله عليه وسلم)]، أي: أنه بعد الزوال أتى من نمرة إلى بطن الوادي إلى عرفة، وعرنة جزء منها من عرفة، وجزء منها خارج حدود عرفة، لذا فعرفة لها حدود معينة، ولا بد أن يقف الحاج على عرفة، فيقف عليها جزءاً من النهار مع جزء من الليل، وبذلك يكون قد أتى بالسنة، ولذلك لو أن حاجاً وقف على عرفة نهاراً، ثم ترك عرفة قبل غروب الشمس، فيكون بذلك قد ترك واجباً؛ لأن الوقوف في عرفة في جزء من الليل من واجبات الحج، فإن تركه يجبر بالدم.
ولو أن رجلاً وقف على عرفة بعد غروب الشمس ولم يقف بالنهار، فحجه صحيح.
ولو أن رجلاً ترك الوقوف على عرفة بالنهار، ولكنه وقف بالليل، فحجه صحيح ولا شيء عليه؛ لأن الوقوف بعرفة يكون ليلاً، فمن أدركها بالليل فقد أدرك الحج ولا شيء عليه؛ والجمع بين الوقوف في عرفة ليلاً ونهاراً سنة، ومن أدرك عرفة فقد أدرك الحج.
ولو أن رجلاً خرج من بلده وتوجه مباشرة إلى عرفة، فأدرك عرفة قبل أن يؤذن الفجر، فحجه صحيح وعليه دم، لأنه ترك المبيت بمزدلفة ليلة العيد.
قال: [فخطب الناس صلى الله عليه وسلم]، أي: أنه خطبهم خطبة الوداع قبل أن يصلي الظهر مع العصر، وخطب -كذلك- بعد زوال الشمس، أي: بعد أن دخل وقت الظهر، فقام فيهم خطيباً في خطبة جامعة لم يعرف التاريخ ولن يعرف مثلها في تمامها وكمالها.
قال: (ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً)]، أي: أنه صلى الظهر والعصر جمعاً، وهذا من النسك.
قال: [(ثم ركب حتى أتى الموقف واستقبل القبلة حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص)]، أي: أنه لم يترك عرفة إلا بعد غروب الشمس، فجمع صلى الله عليه وسلم في الوقوف في عرفة بين الليل والنهار.
قال: [(حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء)]، أي: جمع تأخير؛ لأن المغرب حان عليه في عرفة قبل أن يخرج منتصف الليل، لكن بعض الحجاج قد يركب السيارة فيكون هناك زحام، فيصل إلى مزدلفة في الساعة الثانية أو الثالثة فجراً، ويؤخر العشاء والمغرب إلى هذا الوقت! وهذا لا يجوز، يقول علماؤنا: إن خرج منتصف الليل نزل من سيارته وصلى في أي مكان، وليس شرطاً أن يصلي في مزدلفة؛ لأنه حبسه حابس عن الوصول إلى المزدلفة، لكن إن يسّر الله له فوصل إلى مزدلفة قبل منتصف الليل صلى بها المغرب والعشاء جمع تأخير.
قال: [(فصلى بها المغرب والعشاء -أي بمزدلفة- بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبّح بينهما شيئاً)]، أي: أنه لم يصل النافلة؛ لأن الذي يجمع الصلاة ليس له أن يصلي النافلة، ومن باب أولى الذي يجمع ويقصر، لكن لو أتم صلى نافلة، والفريضة جُبرت عنه، فمن باب أولى النافلة.
قال: [(ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر)]، أي: أنه صلى المغرب والعشاء ثم اضطجع، ولم يصل قيام الليل، لأنه ليس من السنة قيام الليل في ليلة المبيت بمزدلفة، ولأنه يحتاج إلى جهد لأداء النسك.
ثم قال: [(فصلى الصبح حين تبيّن له الصبح بأذان وإقامة)]، أي: أنه صلى الصبح في مزدلفة، ولذلك من واجبات الحج المبيت بالمزدلفة، لكن رُخّص لأهل الأعذار أن يدفعوا من مزدلفة بعد منتصف الليل، كالساقي أو الرجل معه النساء وغير ذلك.
قال: [(ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة، فدعا الله وكبره وهلله ووحده، ولم يزل واقفاً حتى أسفر جداً)]، أي: أنه مكث واقفاً في مزدلفة حتى ظهر ضوء النهار، وأسفر بمعنى: بدا وظهر، قال تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} [المدثر:٣٤]، ومنه سفور المرأة، أي: ظهور مفاتنها، وسمي السفر سفراً؛ لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، فلا تعرف الرجل إلا إذا سافرت معه، فتعرف أخلاقه الطيبة من معايبه.
قال: [(فدفع قبل أن تطلع الشمس -أي: في يوم مزدلفة قبل طلوع الشمس- حتى أتى بطن محسر، فحرك قليلاً ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى)]، وهذا في صباح يوم العيد؛ لأنه بات في مزدلفة ليلة العيد، ثم توجه إلى منى ليسلك الطريق المؤدي إلى جمرة العقبة الكبرى أو العظمى، بحيث يرمي الحاج جمرة واحدة بسبع حصيات، وإجمالي ما يرميه الحاج في حجه ٤٩ حصاة إذا تعجّل، وإذا تأخر ٧٠ حصاة، ولذلك ربنا سبحانه وتعالى يقول: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْن