للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(قد أمر الله تعالى بالعدل والإحسان جميعا، والعدل سبب النجاة فقط وهو يجري من التجارة مجرى سلامة رأس المال، والإحسان سبب الفوز ونيل السعادة وهو يجري من التجارة مجرى الربح، ولا يعد من العقلاء من قنع في معاملات الدنيا برأس ماله فكذا في معاملات الآخرة.

ولا ينبغي للمتدين أن يقتصر على العدل واجتناب الظلم ويدع أبواب الإحسان وقد قال الله تعالى: وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص: ٧٧] وقال عز وجل: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ [النحل: ٩٠] وقال سبحانه: إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: ٥٦] وينال المعامل رتبة الإحسان بواحد من ستة أمور:

الأول: في المغابنة فينبغي أن لا يغبن صاحبه بما لا يتغابن به في العادة، فأما أصل المغابنة فمأذون فيه لأن البيع للربح ولا يمكن ذلك إلا بغبن ولكن يراعى فيه التقريب، ومن قنع بربح قليل كثرت معاملاته واستفاد من تكررها ربحا كثيرا وبه تظهر البركة.

الثاني: في احتمال الغبن، والمشتري إن اشترى طعاما من ضعيف أو شيئا من فقير فلا بأس أن يحتمل الغبن ويتساهل ويكون به محسنا وداخلا في قوله عليه السلام: رحم الله سهل البيع وسهل الشراء (١)، وأما احتمال الغبن من الغني فليس محمودا بل هو تضييع مال من غير أجر ولا حمد، وكان كثير من السلف يستقصون في الشراء ويهبون من ذلك الجزيل من المال، فقيل لبعضهم في ذلك فقال: إن الواهب يعطي فضله، وإن المغبون يغبن عقله.

الثالث: في استيفاء الثمن وسائر الديون والإحسان فيه مرة بالمسامحة وحط البعض ومرة بالإمهال والتأخير ومرة بالمساهلة في طلب جودة النقد، وكل ذلك مندوب إليه ومحثوث عليه، وفي الخبر: من أقرض دينارا إلى أجل فله بكل يوم صدقة إلى أجله، فإذا حل الأجل فأنظره بعده فله بكل يوم مثل ذلك الدين صدقة (٢)، ونظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل يلازم رجلا بدين فأومأ إلى صاحب الدين بيده أي: ضع الشطر ففعل، فقال للمديون: قم فأعطه. (٣).

الرابع: في توفية الدين، ومن الإحسان فيه حسن القضاء وذلك بأن يمشي إلى صاحب الحق ولا يكلفه أن يمشي إليه يتقاضاه فقد قال صلى الله عليه وسلم: خيركم أحسنكم قضاء، ومهما قدر على قضاء الدين فليبادر إليه ولو قبل وقته، وإن عجز فلينو قضاءه مهما قدر، ومهما كلمه مستحق الحق بكلام خشن فليتحمله وليقابله باللطف اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم لما ردد عليه كلامه صاحب الدين فهم به أصحابه فقال: دعوه فإن لصاحب الحق مقالا (٤)، ومن الإحسان أن يميل الحكم إلى من عليه الدين لعسره.


(١) رواه البخاري (٢٠٧٦) بلفظ: (رحم الله رجلا سمحا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. ورواه الطبراني في ((الأوسط)) (٦/ ١٠٧) بلفظ: (رحم الله سهل الشراء، سهل القضاء، سهل التقاضي) من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه.
(٢) ذكره الغزالي في ((إحياء علوم الدين)) (٢/ ٨١).
(٣) رواه البخاري (٤٧١)، ومسلم (١٥٥٨) من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه.
(٤) رواه البخاري (٢٣٠٦)، ومسلم (١٦٠١) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>