للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ولعلَّ من هذا قولَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لمَّا قالت عائشةُ: وارأساه! فقال: «بل أنا وارأساه!» (١). أي: الوجعُ القويُّ بي أنا دونكِ، فتأسَّي بي، ولا تشتكي.

ويلوح لي فيه معنًى آخر، وهو أنها كانت حبيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل كانت أحبَّ النساء إليه على الإطلاق، فلما شكت إليه رأسَها أخبرها أنَّ بمُحِبِّها من الألم مثلَ الذي بها. وهذا غاية الموافقة بين (٢) المُحِبِّ ومحبوبِه. يتألَّم بتألُّمه، ويُسَرُّ بسروره، حتى إذا آلمه عضوٌ من أعضائه آلم المُحِبَّ ذلك العضوُ بعينه. وهذا من صدق المحبة وصفاء المودة.

فالمعنى الأول يُفهِم أنكِ لا تشتكي واصبري، فبي من الوجع مثلُ ما بكِ، فتأسَّي بي في الصبر وعدم الشكوى.

والمعنى الثاني يُفهِم إعلامَها بصدق محبته لها، أي: انظري قوة محبتي لكِ، كيف واسيتُكِ في ألمكِ ووجعِ رأسكِ، فلم تكوني متوجعةً وأنا سليمٌ من الوجع، بل يؤلمني ما يؤلمكِ، كما يسرُّني ما يسرُّكِ؟ كما قيل:

وإنَّ أولَى البرايا أن تواسيَه ... عند السرور الذي واساك في الحزَنِ (٣)

وأما الشكوى، فالإخبار العاري عن القصد الصحيح، بل يكون مصدره


(١) أخرجه البخاري (٥٦٦٦) عن عائشة.
(٢) هذا في (ج، ن، ز). وفي غيرها: «من»، وهي تقتضي أن يكون السياق: من المحب لمحبوبه.
(٣) البيت لإبراهيم بن العباس الصولي في ديوانه ضمن الطرائف الأدبية (١٧٧). وينسب إلى دعبل وأبي تمام. انظر تخريجه في ديوان دعبل (٤٦١ ــ ٤٦١)، والحماسة البصرية (٧٨٩).