علموا الحقائق لكن لم يبينوها للناس بل خاطبوا الجمهور بالتخييل، وأنهم كذبوا لمصلحة الخلق، فيجعلون التخييل في خطابه لا في علمه.
وفي هذا القول أيضًا تكذيب للرسل واتهام لهم بعدم البيان وكتمان الحق، وهذا مما لا يليق بالرسل، فإنهم بلغوا البلاغ المبين، بل فيه مسبة لرب العالمين، إذ كيف يرسل رسلًا إلى الخلق يبلغونهم ألفاظًا لا تطابق الحق في نفس الأمر، هذا من أعظم العبث الذي ينزه عنه الرب تبارك وتعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.
رابعًا: أبطلت القاعدة قول الذين يقولون: الرسل علموا الحق وبينوه لكن لا يمكن معرفته من كلامهم بل يعرف بطرق أخرى؛ من المعقول أو القياس أو الكشف، ثم بعد ذلك ينظر في كلام الرسول فما وافق ذلك قبل، وما خالفه إما أن يفوض، وإما أن يؤول، وهذا هو قول أهل الكلام.
وهذا من أعظم التناقض، كيف يكون الرسل قد بلغوا الحق وبينوه للناس، ثم لا يمكن للخلق معرفته إلا بطرق خارجة عن نفس بيانهم وتبليغهم، هذا من أعظم الباطل وأعظم التنقيص للرسول -صلى الله عليه وسلم-، واتهامه بالتلبيس والتدليس إذ جاء بما ظاهره الباطل، ولم يبيِّن الحق الذي يجب اعتقاده، بل أراد منهم أن يجتهدوا فيه بإتعاب أذهانهم، وتأويل ألفاظه حتَّى يتوصلوا إلى المعنى الحق في نفس الأمر، فحقيقة قول هؤلاء أن مجيء الرسل وعدم ذلك سواء، بل قد يكون حال الناس قبل بعثة الرسل أفضل من حالهم بعد بعثتهم.
يقول الإمام ابن تيمية: "وطريقة التأويل: طريقة المتكلمين من الجهمية (١)
(١) هم: أصحاب الجهم بن صفوان، وهو من الجبرية الخالصة ظهرت بدعته بترمذ، وقتله مسلم المازني بمرو في آخر ملك بني أمية، وافق المعتزلة في نفي الصفات الأزلية، وزاد عليهم بأشياء؛ منها: قوله لا يجوز أن يوصف الباري تعالى بصفة يوصف بها خلقه؛ لأن ذلك يقتضي تشبيهًا، فنفى كونه حيًا عالمًا، وأثبت كونه قادرًا=