للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وهذا معنى صحيح في نفسه، فلا يخرج أحد عن القدر المقدور، ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور، ولكن قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)} لم يرد به هذا المعنى الذي ذهبوا إليه، وحاموا حوله من أن المخلوقات كلها تحت مشيئته وقهره وحكمه. وبيان ذلك:

أولًا: أن نفاذ المشيئة في الخلق ليس هو العبادة، فإن جميع المخلوقات حتى البهائم والجمادات بهذه المنزلة.

ثانيًا: أن لفظ العبادة في عامة سور القرآن لا يراد به هذا المعنى.

يقول الإمام ابن تيمية: "فهذا ونحوه كثير في القرآن؛ لم يرد بعبادة الله إلا العبادة التي أمرت بها الرسل؛ وهي عبادته وحده لا شريك له، والمشركون لا يعبدودن الله، بل يعبدودن الشيطان، وما يدعونه من دودن الله؛ سواء عبدوا الملائكة، أو الأنبياء والصالحين، أو التماثيل والأصنام المصنوعة، فهؤلاء المشركودن قد عبدوا غير الله تعالى كما أخبر الله بذلك؛ فكيف يقال: أن جميع الإنس والجن عبدوا الله لكون قدر الله جاريًا عليهم، والفرق ظاهر بين عبادتهم إياه التي تحصل بإرادتهم، واختيارهم، وإخلاصهم الدين له، وطاعة رسوله، وبين أن يُعَبِّدَهُم هو وَيُنْفِذ فيهم مشيئته، وتكودن عبادتهم لغيره، للشيطان، وللأصنام من المقدور" (١).

ثالثًا: أن قوله تعالى: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)} يقتضي فعلًا يفعلونه هم، وكونه يَرُبُّهم ويخلقهم، وينفذ فيهم مشيئته ليس إلا فعله ليس في ذلك فعل لهم.

الخامس: قول السدي (٢): "من العبادة ما ينفع ومنها ما لا ينفع،


(١) مجموع الفتاوى (٨/ ٤٧).
(٢) هو: الإمام المفسر أبو محمد إسماعيل بن عبد الرحمن، الحجاز ثم الكوفي، أحد موالي قريش، توفي سنة ١٢٧ هـ. [الطبقات الكبرى (٦/ ٣٢٣)، سير أعلام النبلاء (٥/ ٢٦٤)].