للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ترك تلك الأشياء" (١).

ثم بيَّن رَحِمَهُ الله توجيه ترك الصحابة ومأخذهم في هذا الترك بقوله: "وبقي النظر في وجه ترك ما تركوا منه ويحتمل وجهين:

أحدهما: أن يعتقدوا في الاختصاص، وأن مرتبة النبوة يسع فيها ذلك كله؛ للقطع بوجود ما التمسوا من البركة والخير؛ لأنه عليه السلام كان نورًا كله في ظاهره وباطنه، فمن التمس منه نورًا وجده على أي جهة التمسه؛ بخلاف غيره من الأمة؛ فإنه -وإن حصل له من نور الاقتداء به، والاهتداء بهديه ما شاء الله- لا يبلغ مبلغ على حال توازيه في مرتبته، ولا يقاربه، فصار هذا النوع مختصًا به؛ كاختصاصه بنكاح ما زاد على الأربع، وإحلال بضع الواهبة نفسها له، وعدم وجوب القسم على الزوجات، وشبه ذلك.

فعلى هذا المأخذ لا يصح لمن بعده الاقتداء به في التبرك على أحد تلك الوجوه ونحوها، ومن اقتدى به كان اقتداؤه بدعة، كما كان الاقتداء به في الزيادة على أربع نسوة بدعة.

الثاني: أن لا يعتقدوا الاختصاص، ولكنهم تركوا ذلك من باب سد الذرائع؛ خوفًا من أن يُجعل ذلك سُنَّة؛ كما تقدم ذكره في اتباع الآثار والنهي عن ذلك، أو لأن العامة لا تقتصر في ذلك على حد، بل تتجاوز فيه الحدود، وتبالغ بجهلها في التماس البركة، حتى يداخلها للمُتَبرَّك به تعظيم يخرج به عن الحد، فربما اعتُقِد في المبترَّك به ما ليس فيه، وهذا التبرك هو أصل العبادة، ولأجله قطع عمر -رضي الله عنه- الشجرة التي بويع تحتها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بل هو كان أصل عبادة الأوثان في الأمم الخالية -حسبما ذكره أهل السير- فخاف عمر -رضي الله عنه- أن يتمادى الحال في الصلاة إلى تلك الشجرة حتى تُعْبَد من دون الله، فكذلك يتفق عند


(١) الاعتصام (١/ ٤٨٢).