للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فالوجه إنما يتوجه حيث توجه القلب، فإذا توجه الوجه نحو جهة، كان القلب متوجهًا إليها، ولا يمكن للوجه أن يتوجه بدون القلب، فإسلام الوجه وإقامته وتوجيهه مستلزم لإسلام القلب وإقامته وتوجيهه (١).

وتوجيه الوجه وإسلامه وإقامته كلها ألفاظ متقاربة، والمقصود: تقويمه وتعديله باتجاهه قبالة نظره، غير ملتفت يمينًا ولا شمالًا؛ وهو تمثيل لحالة الإقبال على الشيء، والتمحض للشغل به، بحال قصر النظر إلى صوب قبالته، غير ملتفت يَمْنَةً ولا يَسْرَةً، وهذا كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: ٢٩]، وقوله عن إبراهيم: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: ٧٩]، وقوله تعالى: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} [آل عمران: ٢٠]؛ أي: أعطيته لله، وذلك معنى التمحيض لعبادة الله، وأن لا يلتفت إلى معبود غيره (٢).

وبهذا يظهر أن توجيه الوجه إلى الله تعالى يشمل صرف الوجه وتوجيه القلب، لكن ما يتعلق بالقلب هو الأصل، ويأتي توجه الوجه مستتبعًا لما في القلب.

كما أن توجه الوجه الذي أوجبه الله تعالى، وجعله عبادة له لا بد أن يلازمه توجه جملة البدن أيضًا؛ لأن الواجب على الإنسان أن يستقبل القبلة بجملته بما في ذلك الوجه والبدن والقلب، لا بوجهه فقط، والوجه يذكر ويراد به نفس الشيء؛ لأن الوجه أشرف الأعضاء؛ ولأن بالوجه تميز بعض الناس عن بعض؛ فلهذا السبب قد يعبر عن كل الذات بالوجه (٣).


(١) النبوات (ص ٧٥).
(٢) انظر: تفسير التحرير والتنوير (٢١/ ٨٩).
(٣) انظر: تفسير البحر المحيط (١/ ٦٠٣)، والتفسير الكبير للرازي (٤/ ١٠٢).