وَرُفِعَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - شَابٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَهُوَ يَعْرِفُهُ - قَدْ صَارَ كَالْخَلَالِ. فَقَالَ: مَا بِهِ؟ قَالُوا: الْعِشْقُ. فَجَعَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَامَّةَ دُعَائِهِ بِعَرَفَةَ: الِاسْتِعَاذَةَ مِنَ الْعِشْقِ.
وَفِي اشْتِقَاقِهِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنَ الْعَشَقَةِ - مُحَرَّكَةً - وَهِيَ نَبْتٌ أَصْفَرُ يَلْتَوِي عَلَى الشَّجَرِ، فَشُبِّهَ بِهِ الْعَاشِقُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنَ الْإِفْرَاطِ. وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ: فَلَا يُوصَفُ بِهِ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَلَا الْعَبْدُ فِي مَحَبَّةِ رَبِّهِ. وَإِنْ أَطْلَقَهُ سَكْرَانُ مِنَ الْمَحَبَّةِ قَدْ أَفْنَاهُ الْحُبُّ عَنْ تَمْيِيزِهِ. كَانَ فِي خِفَارَةِ صِدْقِهِ وَمَحَبَّتِهِ.
الثَّامِنَةُ: التَّتَيُّمُ وَهُوَ التَّعَبُّدُ، وَالتَّذَلُّلُ. يُقَالُ: تَيَّمَهُ الْحُبُّ أَيْ ذَلَّلَهُ وَعَبَّدَهُ. وَتَيْمُ اللَّهُ: عَبْدُ اللَّهِ. وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيُتْمِ - الَّذِي هُوَ الِانْفِرَادُ - تَلَاقٍ فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَوْسَطِ، وَتَنَاسُبٌ فِي الْمَعْنَى. فَإِنَّ الْمُتَيَّمَ الْمُنْفَرِدُ بِحُبِّهِ وَشَجْوِهِ. كَانْفِرَادِ الْيَتِيمِ بِنَفْسِهِ عَنْ أَبِيهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَكْسُورٌ ذَلِيلٌ. هَذَا كَسَرَهُ يُتْمٌ. وَهَذَا كَسَرَهُ تَتَيُّمٌ.
التَّاسِعَةُ: التَّعَبُّدُ وَهُوَ فَوْقَ التَّتَيُّمِ. فَإِنَّ الْعَبْدَ هُوَ الَّذِي قَدْ مَلَكَ الْمَحْبُوبُ رِقَّهُ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ نَفْسِهِ أَلْبَتَّةَ. بَلْ كُلُّهُ عَبَدٌ لِمَحْبُوبِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ. وَمَنْ كَمَّلَ ذَلِكَ فَقَدْ كَمَّلَ مَرْتَبَتَهَا.
وَلَمَّا كَمَّلَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ: وَصَفَهُ اللَّهُ بِهَا فِي أَشْرَفِ مَقَامَاتِهِ. مَقَامِ الْإِسْرَاءِ، كَقَوْلِهِ {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: ١] وَمَقَامِ الدَّعْوَةِ. كَقَوْلِهِ {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن: ١٩] وَمَقَامِ التَّحَدِّي كَقَوْلِهِ {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: ٢٣] وَبِذَلِكَ اسْتَحَقَّ التَّقْدِيمَ عَلَى الْخَلَائِقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَكَذَلِكَ يَقُولُ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَهُمْ، إِذَا طَلَبُوا مِنْهُ الشَّفَاعَةَ - بَعْدَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute