للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِإِبْرَاهِيمَ. وَالْمَحَبَّةُ لِمُحَمَّدٍ، فَإِبْرَاهِيمُ خَلِيلُهُ وَمُحَمَّدٌ حَبِيبُهُ.

وَالْخُلَّةُ هِيَ الْمَحَبَّةُ الَّتِي تَخَلَّلَتْ رُوحَ الْمُحِبِّ وَقَلْبَهُ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهِ مَوْضِعٌ لِغَيْرِ الْمَحْبُوبِ، كَمَا قِيلَ:

قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي ... وَلِذَا سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلَا.

وَهَذَا هُوَ السِّرُّ الَّذِي لِأَجْلِهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أُمِرَ الْخَلِيلُ بِذَبْحِ وَلَدِهِ، وَثَمَرَةِ فُؤَادِهِ وَفِلْذَةِ كَبِدِهِ. لِأَنَّهُ لَمَّا سَأَلَ الْوَلَدَ فَأُعْطِيَهُ، تَعَلَّقَتْ بِهِ شُعْبَةٌ مِنْ قَلْبِهِ. وَالْخُلَّةُ مَنْصِبٌ لَا يَقْبَلُ الشَّرِكَةَ وَالْقِسْمَةَ. فَغَارَ الْخَلِيلُ عَلَى خَلِيلِهِ: أَنْ يَكُونَ فِي قَلْبِهِ مَوْضِعٌ لِغَيْرِهِ. فَأَمَرَهُ بِذَبْحِ الْوَلَدِ. لِيُخْرِجَ الْمُزَاحِمَ مِنْ قَلْبِهِ.

فَلَمَّا وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَعَزَمَ عَلَيْهِ عَزْمًا جَازِمًا: حَصَلَ مَقْصُودُ الْأَمْرِ. فَلَمْ يَبْقَ فِي إِزْهَاقِ نَفْسِ الْوَلَدِ مَصْلَحَةٌ. فَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ. وَفَدَاهُ بِالذِّبْحِ الْعَظِيمِ. وَقِيلَ لَهُ: {يَاإِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: ١٠٤] أَيْ عَمِلْتَ عَمَلَ الْمُصَدِّقِ {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: ٨٠] نَجْزِي مَنْ بَادَرَ إِلَى طَاعَتِنَا، فَنُقِرُّ عَيْنَهُ كَمَا أَقْرَرْنَا عَيْنَكَ بِامْتِثَالِ أَوَامِرَنَا، وَإِبْقَاءِ الْوَلَدِ وَسَلَامَتِهِ {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: ١٠٦] وَهُوَ اخْتِبَارُ الْمَحْبُوبِ لِمُحِبِّهِ، وَامْتِحَانُهُ إِيَّاهُ لِيُؤْثِرَ مَرْضَاتَهُ. فَيُتِمَّ عَلَيْهِ نِعَمَهُ، فَهُوَ بَلَاءُ مِحْنَةٍ وَمِنْحَةٍ عَلَيْهِ مَعًا.

وَهَذِهِ الدَّعْوَةُ إِنَّمَا دَعَا إِلَيْهَا بِهَا خَوَاصُّ خَلْقِهِ، وَأَهْلُ الْأَلْبَابِ وَالْبَصَائِرِ مِنْهُمْ. فَمَا كَلُّ أَحَدٍ يُجِيبُ دَاعِيهَا. وَلَا كُلُّ عَيْنٍ قَرِيرَةً بِهَا. وَأَهْلُهَا هُمُ الَّذِينَ حَصَلُوا فِي وَسَطِ قَبْضَةِ الْيَمِينِ يَوْمَ الْقَبْضَتَيْنِ. وَسَائِرُ أَهْلِ الْيَمِينِ فِي أَطْرَافِهَا.

فَمَا كَلُّ عَيْنٍ بِالْحَبِيبِ قَرِيرَةً ... وَلَا كُلُّ مَنْ نُودِيَ يُجِيبُ الْمُنَادِيَا

وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ هُدَاكَ فَخَلِّهِ ... يُجِبْ كُلَّ مَنْ أَضْحَى إِلَى الْغَيِّ دَاعِيَا

وَقُلْ لِلْعُيُونِ الرُّمَّدِ: إِيَّاكِ أَنْ تَرَيْ ... سَنَا الشَّمْسِ فَاسْتَغْشَيْ ظَلَامَ اللَّيَالِيَا

وَسَامِحْ نُفُوسًا لَمْ يَهَبْهَا لِحِبِّهِمْ ... وَدَعْهَا وَمَا اخْتَارَتْ وَلَا تَكُ جَافِيَا

<<  <  ج: ص:  >  >>