وَهَذَا عِنْدِي وَهْمٌ بَيِّنٌ. فَإِنَّهُ لَا غَايَةَ لِجَمَالِ الْمَحْبُوبِ وَكَمَالِ صِفَاتِهِ. بِحَيْثُ يَصِلُ الْمُشَاهِدُ لَهَا إِلَى حَالَةٍ لَا يَنْتَظِرُ مَعَهَا شَيْئًا آخَرَ.
هَذَا. وَسَنُبَيِّنُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ فِي الدُّنْيَا مَقَامُ الْمُشَاهَدَةِ أَبَدًا، وَأَنَّ هَذَا مِنْ أَوْهَامِ الْقَوْمِ وَتُرَّهَاتِهِمْ. وَإِنَّمَا غَايَةُ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْعَبْدُ: الشَّوَاهِدُ. وَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ قَطُّ فِي الدُّنْيَا إِلَى مُشَاهَدَةِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ. وَإِنَّمَا وُصُولُهُ إِلَى شَوَاهِدِ الْحَقِّ. وَمَنْ زَعَمَ غَيْرَ هَذَا فَلِغَلَبَةِ الْوَهْمِ عَلَيْهِ، وَحُسْنِ ظَنِّهِ بِتُرَّهَاتِ الْقَوْمِ وَخَيَالَاتِهِمْ.
وَلِلَّهِ دَرُّ الشِّبْلِيِّ حَيْثُ سُئِلَ عَنِ الْمُشَاهَدَةِ؟ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَنَا مُشَاهَدَةُ الْحَقِّ؟ لَنَا شَاهِدُ الْحَقِّ. هَذَا، وَهُوَ صَاحِبُ الشَّطَحَاتِ الْمَعْرُوفَةِ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ كَلَامِهِ وَأَبْيَنِهِ.
وَأَرَادَ بِشَاهِدِ الْحَقِّ: مَا يَغْلِبُ عَلَى الْقُلُوبِ الصَّادِقَةِ الْعَارِفَةِ الصَّافِيَةِ: مِنْ ذِكْرِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَإِجْلَالِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَتَوْقِيرِهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ ذَلِكَ حَاضِرًا فِيهَا، مَشْهُودًا لَهَا، غَيْرَ غَائِبٍ عَنْهَا. وَمَنْ أَشَارَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَمَغْرُورٌ مَخْدُوعٌ. وَغَايَتُهُ: أَنْ يَكُونَ فِي خِفَارَةِ صِدْقِهِ، وَضَعْفِ تَمْيِيزِهِ وَعِلْمِهِ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْقُلُوبَ تُشَاهِدُ أَنْوَارًا بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهَا. تَقْوَى تَارَةً، وَتَضْعُفُ أُخْرَى. وَلَكِنَّ تِلْكَ أَنْوَارُ الْأَعْمَالِ وَالْإِيمَانِ وَالْمَعَارِفِ، وَصَفَاءُ الْبَوَاطِنِ وَالْأَسْرَارِ. لَا أَنَّهَا أَنْوَارُ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ. فَإِنَّ الْجَبَلَ لَمْ يَثْبُتْ لِلْيَسِيرِ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ حَتَّى تَدَكْدَكَ وَخَرَّ الْكَلِيمُ صَعِقًا، مَعَ عَدَمِ تَجَلِّيهِ لَهُ. فَمَا الظَّنُّ بِغَيْرِهِ؟
فَإِيَّاكَ ثُمَّ إِيَّاكَ وَتُرَّهَاتِ الْقَوْمِ وَخَيَالَاتِهِمْ وَأَوْهَامَهُمْ. فَإِنَّهَا عِنْدَ الْعَارِفِينَ أَعْظَمُ مِنْ حِجَابِ النَّفْسِ وَأَحْكَامِهَا. فَإِنَّ الْمَحْجُوبَ بِنَفْسِهِ مُعْتَرِفٌ بِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْحِجَابِ.
وَصَاحِبُ هَذِهِ الْخَيَالَاتِ وَالْأَوْهَامِ يَرَى أَنَّ الْحَقِيقَةَ قَدْ تَجَلَّتْ لَهُ أَنْوَارُهَا. وَلَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ لِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ كَلِيمِ الرَّحْمَنِ. فَحِجَابُ هَؤُلَاءِ أَغْلَظُ بِلَا شَكٍّ مِنْ حِجَابِ أُولَئِكَ. وَلَا يُقِرُّ لَنَا بِهَذَا إِلَّا عَارِفٌ قَدْ أَشْرَقَ فِي بَاطِنِهِ نُورُ السُّنَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ. فَرَأَى مَا النَّاسُ فِيهِ. وَمَا أَعَزَّ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا. وَمَا أَغْرَبَهُ بَيْنَ الْخَلْقِ وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
فَالصَّادِقُونَ فِي أَنْوَارِ مَعَارِفِهِمْ وَعِبَادَاتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ لَيْسَ إِلَّا. وَأَنْوَارُ ذَاتِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَرَاءَ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِنْ مَقَاطِعِ الطَّرِيقِ، وَلِلَّهِ كَمْ زَلَّتْ فِيهِ أَقْدَامٌ! وَضَلَّتْ فِيهِ أَفْهَامٌ! وَحَارَتْ فِيهِ أَوْهَامٌ! وَنَجَا مِنْهُ صَادِقُ الْبَصِيرَةِ، تَامُّ الْمَعْرِفَةِ، عِلْمُهُ مُتَّصِلٌ بِمِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute