للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الِافْتِقَارُ، وَمُتَابَعَةُ الرَّسُولِ فَقَطْ. فَلَا يُتْعِبُ السَّالِكُ نَفْسَهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الطَّرِيقِ. فَإِنَّهُ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ. وَهُوَ صَيْدُ الْوُحُوشِ وَالسِّبَاعِ.

قَوْلُهُ " فَيُنْشِئُ سَحَابَ السُّرُورِ " أَيْ يُنْشِئُ لِلْعَبْدِ سُرُورًا خَاصًّا وَفَرَحًا بِرَبِّهِ لَا عَهْدَ لَهُ بِمِثْلِهِ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ فِي الدُّنْيَا، وَنَفْحَةً مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ، وَنِسْمَةً مِنْ رِيحِ شَمَالِهِمْ. فَإِذَا نَشَأَ لَهُ ذَلِكَ السَّحَابُ أَمْطَرَ عَلَيْهِ صَيِّبَ الطَّرَبِ، فَطَرِبَ بَاطِنُهُ وَسِرُّهُ لِمَا وَرَدَ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِ سَيِّدِهِ وَوَلِيِّهِ. وَإِذَا اشْتَدَّ ذَلِكَ الطَّرَبُ. جَرَى بِهِ نَهْرُ الِافْتِخَارِ، يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ بِمَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ.

وَإِمَّا أَنْ يُرِيدُ بِهِ: افْتِخَارُهُ عَلَى الشَّيْطَانِ. وَهَذِهِ مَخِيلَةٌ مَحْمُودَةٌ، طَرَبًا وَافْتِخَارًا عَلَيْهِ. فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَكْرَهُ ذَلِكَ. وَلِهَذَا يُحِبُّ الْمُخْتَالَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ عِنْدَ الْحَرْبِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُرَاغَمَةِ أَعْدَائِهِ، وَيُحِبُّ الْخُيَلَاءَ عِنْدَ الصَّدَقَةِ - كَمَا جَاءَ ذَلِكَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي الْحَدِيثِ - لِسِرٍّ عَجِيبٍ، يَعْرِفُهُ أُولُو الصَّدَقَاتِ وَالْبَذْلِ مِنْ نُفُوسِهِمْ عِنْدَ ارْتِيَاحِهِمْ لِلْعَطَاءِ، وَابْتِهَاجِهِمْ بِهِ، وَاخْتِيَالِهِمْ عَلَى النَّفْسِ الشَّحِيحَةِ الْأَمَّارَةِ بِالْبُخْلِ. وَعَلَى الشَّيْطَانِ الْمُزَيِّنِ لَهَا ذَلِكَ:

وَهُمْ يُنْفِذُونَ الْمَالَ فِي أَوَّلِ الْغِنَى ... وَيَسْتَأْنِفُونَ الصَّبْرَ فِي آخِرِ الصَّبْرِ

مَغَاوِيرُ لِلْعَلْيَا مَغَابِيرُ لِلْحِمَى ... مَفَارِيجُ لِلْغُمَّى مَدَارِيكُ لِلْوِتْرِ

وَتَأْخُذُهُمْ فِي سَاعَةِ الْجُودَ هِزَّةٌ ... كَمَا تَأْخُذُ الْمِطْرَابَ عَنْ نَزْوَةِ الْخَمْرِ

فَهَذَا الِافْتِخَارُ مِنْ تَمَامِ الْعُبُودِيَّةِ.

أَوْ يُرِيدُ بِهِ: أَنَّهُ حَرِيٌّ بِالِافْتِخَارِ بِمَا تَمَيَّزَ بِهِ. وَلَمْ يَفْتَخِرْ بِهِ إِبْقَاءً عَلَى عُبُودِيَّتِهِ وَافْتِقَارِهِ. وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ صَحِيحٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَسِرُّ ذَلِكَ: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا لَاحَظَ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْأَلْطَافِ، وَشَهِدَهُ مِنْ عَيْنِ الْمِنَّةِ، وَمَحْضِ الْجُودِ: شَهِدَ مَعَ ذَلِكَ فَقْرَهُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ، وَعَدَمَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ. فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ الشُّكْرِ، وَأَسْبَابِ الْمَزِيدِ، وَتَوَالِي النِّعَمِ عَلَيْهِ.

وَكُلَّمَا تَوَالَتْ عَلَيْهِ النِّعَمُ: أَنْشَأَتْ فِي قَلْبِهِ سَحَائِبَ السُّرُورِ. وَإِذَا انْبَسَطَتْ هَذِهِ السَّحَائِبُ فِي سَمَاءِ قَلْبِهِ، وَامْتَلَأَ بِهَا أُفُقُهُ: أَمْطَرَتْ عَلَيْهِ وَابِلَ الطَّرَبِ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ لَذِيذِ السُّرُورِ. فَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ وَابِلٌ فَطَلٌّ. وَحِينَئِذٍ يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ وَظَاهِرِهِ نَهْرُ الِافْتِخَارِ مِنْ غَيْرِ عُجْبٍ وَلَا فَخْرٍ، بَلْ فَرَحًا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: ٥٨] فَالِافْتِخَارُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالِافْتِقَارُ وَالِانْكِسَارُ فِي بَاطِنِهِ، وَلَا يُنَافِي أَحَدُهُمَا الْآخَرَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>