للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالُوا أَتَشْكُو إِلَيْهِ ... مَا لَيْسَ يَخْفَى عَلَيْهِ

فَقُلْتُ رَبِّي يَرْضَى ... ذُلَّ الْعَبِيدِ لَدَيْهِ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ إِسْحَاقَ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: تَذَاكَرْتُ: مَا جِمَاعُ الْخَيْرِ؟ فَإِذَا الْخَيْرُ كَثِيرٌ: الصِّيَامُ، وَالصَّلَاةُ. وَإِذَا هُوَ فِي يَدِ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِذَا أَنْتَ لَا تَقْدِرُ عَلَى مَا فِي يَدِ اللَّهِ إِلَّا أَنْ تَسْأَلَهُ، فَيُعْطِيَكَ. فَإِذَا جِمَاعُ الْخَيْرِ: الدُّعَاءُ.

وَفِي هَذَا الْمَقَامِ غَلِطَ طَائِفَتَانِ مِنَ النَّاسِ:

طَائِفَةٌ ظَنَّتْ أَنَّ الْقَدَرَ السَّابِقَ يَجْعَلُ الدُّعَاءَ عَدِيمَ الْفَائِدَةِ.

قَالُوا: فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ إِنْ كَانَ قَدْ قُدِّرَ، فَلَا بُدَّ مِنْ وُصُولِهِ، دَعَا الْعَبْدُ أَوْ لَمْ يَدْعُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ قُدِّرَ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى حُصُولِهِ، دَعَا أَوْ لَمْ يَدْعُ.

وَلَمَّا رَأَوُا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْآثَارَ قَدْ تَظَاهَرَتْ بِالدُّعَاءِ وَفَضْلِهِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهِ وَطَلَبِهِ، قَالُوا: هُوَ عُبُودِيَّةٌ مَحْضَةٌ. لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْمَطْلُوبِ أَلْبَتَّةَ. وَإِنَّمَا تَعَبَّدَنَا بِهِ اللَّهُ. وَلَهُ أَنْ يَتَعَبَّدَ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ كَيْفَ شَاءَ.

وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ: ظَنَّتْ أَنَّ بِنَفْسِ الدُّعَاءِ وَالطَّلَبِ يُنَالُ الْمَطْلُوبُ، وَأَنَّهُ مُوجِبٌ لِحُصُولِهِ، حَتَّى كَأَنَّهُ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ. وَرُبَّمَا انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ شُهُودُهُمْ: أَنَّ هَذَا السَّبَبَ مِنْهُمْ وَبِهِمْ، وَأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ فَعَلُوهُ، وَأَنَّ نُفُوسَهُمْ هِيَ الَّتِي فَعَلَتْهُ وَأَحْدَثَتْهُ.

وَإِنْ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَحَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ وَإِرَادَاتِهِمْ، فَرُبَّمَا غَابَ عَنْهُمْ شُهُودُ كَوْنِ ذَلِكَ بِاللَّهِ وَمِنَ اللَّهِ، لَا بِهِمْ وَلَا مِنْهُمْ. وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَرَّكَهُمْ لِلدُّعَاءِ. وَقَذَفَهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ. وَأَجْرَاهُ عَلَى لِسَانِهِ.

فَهَاتَانِ الطَّائِفَتَانِ غَالِطَتَانِ أَقْبَحَ غَلَطٍ. وَهُمَا مَحْجُوبَتَانِ عَنِ اللَّهِ.

فَالْأُولَى: مَحْجُوبَةٌ عَنْ رُؤْيَةِ حِكْمَتِهِ فِي الْأَسْبَابِ وَنَصْبِهَا لِإِقَامَةِ الْعُبُودِيَّةِ، وَتَعَلُّقِ الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ بِهَا. فَحِجَابُهَا كَثِيفٌ عَنْ مَعْرِفَةِ حِكْمَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي شَرْعِهِ وَأَمْرِهِ وَقَدَرِهِ.

وَالثَّانِيَةُ: مَحْجُوبَةٌ عَنْ رُؤْيَةِ مِنَنِهِ وَفَضْلِهِ، وَتَفَرُّدِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالتَّدْبِيرِ. وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. وَأَنَّهُ لَا حَوْلَ لِلْعَبْدِ وَلَا قُوَّةَ لَهُ - بَلْ وَلَا لِلْعَالَمِ أَجْمَعَ - إِلَّا بِهِ سُبْحَانَهُ. وَأَنَّهُ لَا تَتَحَرَّكُ ذَرَّةٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَمَشِيئَتِهِ.

وَقَوْلُ الطَّائِفَةِ الْأُولَى: إِنَّ الْمَطْلُوبَ إِنْ قُدِّرَ لَا بُدَّ مِنْ حُصُولِهِ، وَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يُقَدَّرْ فَلَا مَطْمَعَ فِي حُصُولِهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>