وَمِنْكَ بَدَا حُبٌّ بِعِزٍّ تَمَازَجَا ... بِنَا وَوِصَالًا كُنْتَ أَنْتَ وَصَلْتَهُ
ظَهَرْتَ لِمَنْ أَبْقَيْتَ بَعْدَ فَنَائِهِ ... وَكَانَ بِلَا كَوْنٍ لِأَنَّكَ كُنْتَهُ
فَيَسْمَعُ الْغِرُّ " التَّمَازُجَ وَالْوِصَالَ " فَيَظُنُّ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ نَفْسُ كَوْنِ الْعَبْدِ. فَلَا يَشُكُّ أَنَّ هَذَا هُوَ غَايَةُ التَّحْقِيقِ، وَنِهَايَةُ الطَّرِيقِ. ثُمَّ لِنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ كَلَامِهِ.
قَوْلُهُ: يُدْرِجُ حَظَّ الْعُبُودِيَّةِ فِي حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ.
الْمَعْنَى الصَّحِيحُ، الَّذِي يُحْمَلُ عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَامُ: أَنَّ مَنْ تَمَكَّنَ فِي قَلْبِهِ شُهُودُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَصَفَا لَهُ عِلْمُهُ وَحَالُهُ: انْدَرَجَ عَمَلُهُ جَمِيعُهُ وَأَضْعَافُهُ وَأَضْعَافُ أَضْعَافِهِ فِي حَقِّ رَبِّهِ تَعَالَى وَرَآهُ فِي جَنْبِ حَقِّهِ أَقَلَّ مِنْ خَرْدَلَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جِبَالِ الدُّنْيَا. فَسَقَطَ مِنْ قَلْبِهِ اقْتِضَاءُ حَظِّهِ مِنَ الْمُجَازَاةِ عَلَيْهِ. لِاحْتِقَارِهِ لَهُ، وَقِلَّتِهِ عِنْدَهُ، وَصِغَرِهِ فِي عَيْنِهِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ حَدَّثَنَا صَالِحٌ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ عَنْ أَبِي الْجِلْدِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى دَاوُدَ: يَا دَاوُدَ، أَنْذِرْ عِبَادِيَ الصَّادِقِينَ. فَلَا يُعْجِبُنَّ بِأَنْفُسِهِمْ، وَلَا يَتَّكِلُنَّ عَلَى أَعْمَالِهِمْ. فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ عِبَادِي أَنْصِبُهُ لِلْحِسَابِ، وَأُقِيمُ عَلَيْهِ عَدْلِي إِلَّا عَذَّبْتَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ أَظْلِمَهُ. وَبَشِّرْ عِبَادِيَ الْخَطَّائِينَ: أَنَّهُ لَا يَتَعَاظَمُنِي ذَنْبٌ أَنْ أَغْفِرَهُ وَأَتَجَاوَزَ عَنْهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا سَيَّارٌ حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ قَالَ: تَعَبَّدَ رَجُلٌ سَبْعِينَ سَنَةً. وَكَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: رَبِّ اجْزِنِي بِعَمَلِي. فَمَاتَ فَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ. فَكَانَ فِيهَا سَبْعِينَ عَامًا. فَلَمَّا فَرَغَ وَقْتُهُ، قِيلَ لَهُ: اخْرُجْ، فَقَدِ اسْتَوْفَيْتَ عَمَلَكَ، فَقَلَّبَ أَمْرَهُ: أَيُّ شَيْءٍ كَانَ فِي الدُّنْيَا أَوْثَقَ فِي نَفْسِهِ؟ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا أَوْثَقَ فِي نَفْسِهِ مِنْ دُعَاءِ اللَّهِ، وَالرَّغْبَةِ إِلَيْهِ. فَأَقْبَلَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: رَبِّ سَمِعْتُكَ - وَأَنَا فِي الدُّنْيَا - وَأَنْتَ تُقِيلُ الْعَثَرَاتِ. فَأَقِلِ الْيَوْمَ عَثْرَتِي. فَتُرِكَ فِي الْجَنَّةِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا هَاشِمٌ حَدَّثَنَا صَالِحٌ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ عَنْ أَبِي الْجِلْدِ قَالَ: قَالَ مُوسَى: إِلَهِي، كَيْفَ أَشْكُرُكَ، وَأَصْغَرُ نِعْمَةٍ وَضَعْتَهَا عِنْدِي مِنْ نِعْمَتِكَ لَا يُجَازِيهَا عَمَلِي كُلُّهُ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: يَا مُوسَى، الْآنَ شَكَرْتَنِي.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute