فَهُمْ عَامِلُونَ عَلَى إِسْقَاطِ جَاهِهِمْ وَمَنْزِلَتِهِمْ فِي قُلُوبِ النَّاسِ. لَمَّا رَأَوُا الْمُغْتَرِّينَ - الْمُغْتَرَّ بِهِمْ - مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى السُّلُوكِ يَعْمَلُونَ عَلَى تَزْكِيَةِ نُفُوسِهِمْ، وَتَوْفِيرِ جَاهِهِمْ فِي قُلُوبِ النَّاسِ. فَعَاكَسَهُمْ هَؤُلَاءِ وَأَظْهَرُوا بَطَالَةً وَأَبْطَنُوا أَعْمَالًا. وَكَتَمُوا أَحْوَالَهُمْ جُهْدَهُمْ. وَيَنْشُدُونَ فِي هَذِهِ الْحَالِ:
فَلَيْتَكَ تَحْلُو وَالْحَيَاةُ مَرِيرَةُ ... وَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالْأَنَامُ غِضَابُ
وَلَيْتَ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَامِرٌ ... وَبَيْنِي وَبَيْنَ الْعَالَمِينَ خَرَابُ
إِذَا صَحَّ مِنْكَ الْوُدُّ يَا غَايَةَ الْمُنَى ... فَكُلُّ الَّذِي فَوْقَ التُّرَابِ تُرَابُ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ قَالَ: كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلْيَدْهِنْ لِحْيَتَهُ وَيَمْسَحْ شَفَتَيْهِ، حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى النَّاسِ، فَيَقُولُونَ: لَيْسَ بِصَائِمٍ.
وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: التَّصَوُّفُ تَرْكُ الدَّعَاوَى، وَكِتْمَانُ الْمَعَانِي، وَسُئِلَ الْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ عَنْ عَلَامَاتِ الصَّادِقِ؟ فَقَالَ: أَنْ لَا يُبَالِيَ أَنْ يُخْرِجَ كُلَّ قَدْرٍ لَهُ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ مِنْ أَجْلِ صَلَاحِ قَلْبِهِ، وَلَا يُحِبُّ اطِّلَاعَ النَّاسِ عَلَى الْيَسِيرِ مِنْ عَمَلِهِ.
وَهَذَا يُحْمَدُ فِي حَالٍ، وَيُذَمُّ فِي حَالٍ، وَيَحْسُنُ مِنْ رَجُلٍ وَيَقْبُحُ مِنْ آخَرَ، فَيُحْمَدُ إِذَا أَظْهَرَ مَا يَجُوزُ إِظْهَارُهُ، وَلَا نَقْصَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَلَا ذَمَّ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ لِيَكْتُمَ بِهِ حَالَهُ وَعَمَلَهُ، كَمَا إِذَا أَظْهَرَ الْغِنَى وَكَتَمَ الْفَقْرَ وَالْفَاقَةَ، وَأَظْهَرَ الصِّحَّةَ وَكَتَمَ الْمَرَضَ، وَأَظْهَرَ النِّعْمَةَ وَكَتَمَ الْبَلِيَّةَ.
فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ كُنُوزِ السِّتْرِ، وَلَهُ فِي الْقَلْبِ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ يَعْرِفُهُ مَنْ ذَاقَهُ، وَشَكَا رَجُلٌ إِلَى الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ شَكَاةً فَقَالَ: يَا ابْنِ أَخِي قَدْ ذَهَبَ ضَوْءُ بَصَرِي مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً فَمَا أَخْبَرْتُ بِهِ أَحْدًا.
وَأَمَّا الْحَالُ الَّتِي يُذَمُّ فِيهَا: فَأَنْ يُظْهِرَ مَا لَا يَجُوزُ إِظْهَارُهُ، لِيُسِيءَ بِهِ النَّاسُ الظَّنَّ، فَلَا يُعَظِّمُوهُ كَمَا يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّهُ دَخَلَ الْحَمَّامَ، ثُمَّ خَرَجَ وَسَرَقَ ثِيَابَ رَجُلٍ، وَمَشَى رُوَيْدًا حَتَّى أَدْرَكُوهُ، فَأَخَذُوهَا مِنْهُ وَسَبُّوهُ فَهَذَا حَرَامٌ لَا يَحِلُّ تَعَاطِيهِ، وَيَقْبُحُ أَيْضًا مِنَ الْمَتْبُوعِ الْمُقْتَدَى بِهِ ذَلِكَ، بَلْ وَمَا هُوَ دُونَهُ؛ لِأَنَّهُ يُغِرُّ النَّاسَ، وَيُوقِعُهُمْ فِي التَّأَسِّي بِمَا يُظْهِرُهُ مِنْ سُوءٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute