لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، وَبِمَا خَلَقَ مِنْ عَبِيدِهِ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُ، وَالشَّاكِرُ لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، وَبِمَا أَجْرَاهُ عَلَى أَلْسِنَةِ عَبِيدِهِ وَقُلُوبِهِمْ وَجَوَارِحِهِمْ مِنْ ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ، فَمِنْهُ السَّبَبُ وَهُوَ الْغَايَةُ {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: ٣] .
وَلِلْمُلْحِدِ هَاهُنَا مَجَالٌ، حَيْثُ يَظُنُّ أَنَّ الذَاكِرَ وَالْمَذْكُورَ وَالذِّكْرَ، وَالْعَارِفَ وَالْمَعْرُوفَ وَالْمَعْرِفَةَ، وَالْمُحِبَّ وَالْمَحْبُوبَ وَالْمَحَبَّةَ مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ، لَا بَلْ ذَلِكَ هُوَ الْعَيْنُ الْوَاحِدَةُ، وَأَنَّ الَّذِي عَرَفَ اللَّهَ وَأَحَبَّهُ هُوَ اللَّهُ نَفْسُهُ، وَإِنْ تَعَدَّدَتْ مَظَاهِرُهُ، فَالظَّاهِرُ فِيهَا وَاحِدٌ، ظَهَرَ بِوُجُودِهِ الْعَيْنِيِّ فِيهَا، فَوُجُودُهَا عَيْنُ وُجُودِهِ، وَوُجُودُهُ فَاضَ عَلَيْهَا، وَهَذَا أَكْفَرُ مِنْ كُلِّ كُفْرٍ، وَأَعْظَمُ مِنْ كُلِّ إِلْحَادٍ.
وَالْمُوَحِّدُونَ يَقُولُونَ: إِنَّمَا فَاضَ عَلَيْهَا إِيجَادُهُ لَا وُجُودُهُ، فَظَهَرَ فِيهَا فِعْلُهُ، بَلْ أَثَرُ فِعْلِهِ لَا ذَاتِهِ وَلَا صِفَاتِهِ، فَقَامَتْ بِهِ فَقْرًا إِلَيْهِ وَاحْتِياجًا لَا وُجُودًا وَذَاتًا، وَأَقَامَهَا بِمَشِيئَتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ لَا بِظُهُورِهِ فِيهَا.
وَلَقَدْ لَحَظَ مَلَاحِدَةُ الِاتِّحَادِيَّةِ أَمْرًا اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ فِي وَحْدَةِ الْمُوجِدِ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ، وَتَوْحِيدِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ بِتَوْحِيدِ الْوُجُودِ، وَفَيَضَانِ جُودِهِ بِفَيَضَانِ وَجُودِهِ، فَوَحَّدُوا الْوُجُودَ وَزَعَمُوا أَنَّهُ هُوَ الْمَعْبُودُ، فَصَارُوا عَبِيدَ الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ الَّذِي لَا وُجُودَ لَهُ فِي غَيْرِ الْأَذْهَانِ، وَعَبِيدُ الْمَوْجُودَاتِ الْخَارِجَةِ فِي الْأَعْيَانِ، فَإِنَّ وُجُودَهَا عِنْدَهُمْ: هُوَ الْمُسَمَّى بِاللَّهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ هَذَا الْإِلْحَادِ الَّذِي {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم: ٩٠] وَسُبْحَانَ مَنْ هُوَ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ بِذَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ.
أَيْنَ حَقِيقَةُ الْمَخْلُوقِ مِنَ الْمَاءِ الْمَهِينِ مِنْ ذَاتِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟ أَيْنَ الْمُكَوَّنُ مِنْ تُرَابٍ مِنْ رَبِّ الْأَرْبَابِ؟ أَيْنَ الْفَقِيرُ بِالذَّاتِ إِلَى الْغَنِيِّ بِالذَّاتِ؟ أَيْنَ وُجُودُ مَنْ يَضْمَحِلُّ وَجُودُهُ وَيَفُوتُ إِلَى حَقِيقَةِ وُجُودِ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ؟ {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ - هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ - هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: ٢٢ - ٢٤] .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute