وَالْبَصِيرَةُ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ، مَنِ اسْتَكْمَلَهَا فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْبَصِيرَةَ: بَصِيرَةٌ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَبَصِيرَةٌ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَبَصِيرَةٌ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ.
فَالْبَصِيرَةُ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: أَنْ لَا يَتَأَثَّرَ إِيمَانُكَ بِشُبْهَةٍ تُعَارِضُ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ، وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ، بَلْ تَكُونُ الشُّبَهُ الْمُعَارِضَةُ لِذَلِكَ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةِ الشُّبَهِ وَالشُّكُوكِ فِي وُجُودِ اللَّهِ، فَكِلَاهُمَا سَوَاءٌ فِي الْبَلَاءِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَصَائِرِ.
وَعَقْدُ هَذَا: أَنْ يَشْهَدَ قَلْبُكَ الرَّبَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مُسْتَوِيًا عَلَى عَرْشِهِ، مُتَكَلِّمًا بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، بَصِيرًا بِحَرَكَاتِ الْعَالَمِ عُلْوِيِّهِ وَسُفْلِيِّهِ، وَأَشْخَاصِهِ وَذَوَاتِهِ، سَمِيعًا لِأَصْوَاتِهِمْ، رَقِيبًا عَلَى ضَمَائِرِهِمْ وَأَسْرَارِهِمْ، وَأَمْرُ الْمَمَالِكِ تَحْتَ تَدْبِيرِهِ، نَازِلٌ مِنْ عِنْدِهِ وَصَاعِدٌ إِلَيْهِ، وَأَمْلَاكُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ تُنَفِّذُ أَوَامِرَهُ فِي أَقْطَارِ الْمَمَالِكِ، مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، مَنْعُوتًا بِنُعُوتِ الْجَلَالِ، مُنَزَّهًا عَنِ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ وَالْمِثَالِ، هُوَ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ، وَفَوْقَ مَا يَصِفُهُ بِهِ خَلْقُهُ، حَيٌّ لَا يَمُوتُ، قَيُّومٌ لَا يَنَامُ، عَلِيمٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ، بَصِيرٌ يَرَى دَبِيبَ النَّمْلَةِ السَّوْدَاءِ، عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ، سَمِيعٌ يَسْمَعُ ضَجِيجَ الْأَصْوَاتِ، بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ، عَلَى تَفَنُّنِ الْحَاجَاتِ، تَمَّتْ كَلِمَاتُهُ صِدْقًا وَعَدْلًا، وَجَلَّتْ صِفَاتُهُ أَنْ تُقَاسَ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ شَبَهًا وَمِثْلًا، وَتَعَالَتْ ذَاتُهُ أَنْ تُشْبِهَ شَيْئًا مِنَ الذَّوَاتِ أَصْلًا، وَوَسِعَتِ الْخَلِيقَةَ أَفْعَالُهُ عَدْلًا وَحِكْمَةً وَرَحْمَةً وَإِحْسَانًا وَفَضْلًا، لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، وَلَهُ النِّعْمَةُ وَالْفَضْلُ، وَلَهُ الْمُلْكُ وَالْحَمْدُ، وَلَهُ الثَّنَاءُ وَالْمَجْدُ، أَوَّلُ لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، وَآخِرٌ لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ، ظَاهِرٌ لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ، بَاطِنٌ لَيْسَ دُونَهُ شَيْءٌ، أَسْمَاؤُهُ كُلُّهَا أَسْمَاءُ مَدْحٍ وَحَمْدٍ وَثَنَاءٍ وَتَمْجِيدٍ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ حُسْنَى، وَصِفَاتُهُ كُلُّهَا صِفَاتُ كَمَالٍ، وَنُعُوتُهُ كُلُّهَا نُعُوتُ جَلَالٍ، وَأَفْعَالُهُ كُلُّهَا حِكْمَةٌ وَرَحْمَةٌ وَمَصْلَحَةٌ وَعَدْلٌ، كُلُّ شَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ دَالٌّ عَلَيْهِ، وَمُرْشِدٌ لِمَنْ رَآهُ بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ إِلَيْهِ، لَمْ يَخْلُقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا، وَلَا تَرَكَ الْإِنْسَانَ سُدًى عَاطِلًا، بَلْ خَلَقَ الْخَلْقَ لِقِيَامِ تَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَأَسْبَغَ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ لِيَتَوَسَّلُوا بِشُكْرِهَا إِلَى زِيَادَةِ كَرَامَتِهِ، تَعَرَّفَ إِلَى عِبَادِهِ بِأَنْوَاعِ التَّعَرُّفَاتِ، وَصَرَّفَ لَهُمُ الْآيَاتِ، وَنَوَّعَ لَهُمُ الدِّلَالَاتِ، وَدَعَاهُمْ إِلَى مَحَبَّتِهِ مِنْ جَمِيعِ الْأَبْوَابِ، وَمَدَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مِنْ عَهْدِهِ أَقْوَى الْأَسْبَابِ، فَأَتَمَّ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ السَّابِغَةَ، وَأَقَامَ عَلَيْهِمْ حُجَّتَهُ الْبَالِغَةَ، أَفَاضَ عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ، وَكَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، وَضَمَّنَ الْكِتَابَ الَّذِي كَتَبَهُ: أَنَّ رَحْمَتَهُ تَغْلِبُ غَضَبَهُ.
وَتَفَاوُتُ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْبَصِيرَةِ بِحَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ النُّصُوصِ النَّبَوِيَّةِ وَفَهْمِهَا، وَالْعِلْمِ بِفَسَادِ الشُّبَهِ الْمُخَالَفَةِ لِحَقَائِقِهَا.
وَتَجِدُ أَضْعَفَ النَّاسِ بَصِيرَةً أَهْلَ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ الْمَذْمُومِ الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ، لِجَهْلِهِمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute