ذَلِكَ فَقَدْ ظَفِرَ بِحَالِ التَّقَرُّبِ وَسِرِّهِ وَبَاطِنِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فَهُوَ يَتَقَرَّبُ بِلِسَانِهِ وَبَدَنِهِ وَظَاهِرِهِ فَقَطْ، فَلْيَدُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلْيَتَكَلَّفِ التَّقَرُّبَ بِالْأَذْكَارِ وَالْأَعْمَالِ عَلَى الدَّوَامِ، فَعَسَاهُ أَنْ يَحْظَى بِحَالِ الْقُرْبِ.
وَوَرَاءَ هَذَا الْقُرْبِ الْبَاطِنِ أَمْرٌ آخَرُ أَيْضًا، وَهُوَ شَيْءٌ لَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِأَحْسَنِ مِنْ عِبَارَةِ أَقْرَبِ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، حَيْثُ يَقُولُ حَاكِيًا عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» فَيَجِدُ هَذَا الْمُحِبُّ فِي بَاطِنِهِ ذَوْقَ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ ذَوْقًا حَقِيقِيًّا.
فَذَكَرَ مِنْ مَرَاتِبِ الْقُرْبِ ثَلَاثَةً، وَنَبَّهَ بِهَا عَلَى مَا دُونَهَا وَمَا فَوْقَهَا. فَذَكَرَ تَقَرُّبَ الْعَبْدِ إِلَيْهِ بِالْبِرِّ، وَتَقَرُّبَهُ سُبْحَانَهُ إِلَى الْعَبْدِ ذِرَاعًا، فَإِذَا ذَاقَ الْعَبْدُ حَقِيقَةَ هَذَا التَّقَرُّبِ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى تَقَرُّبِ الذِّرَاعِ، فَيَجِدُ ذَوْقَ تَقَرُّبِ الرَّبِّ إِلَيْهِ بَاعًا.
فَإِذَا ذَاقَ حَلَاوَةَ هَذَا الْقُرْبِ الثَّانِي أَسْرَعَ الْمَشْيَ حِينَئِذٍ إِلَى رَبِّهِ، فَيَذُوقُ حَلَاوَةَ إِتْيَانِهِ إِلَيْهِ هَرْوَلَةً، وَهَاهُنَا مُنْتَهَى الْحَدِيثِ، مُنَبِّهًا عَلَى أَنَّهُ إِذَا هَرْوَلَ عَبْدُهُ إِلَيْهِ كَانَ قُرْبُ حَبِيبِهِ مِنْهُ فَوْقَ هَرْوَلَةِ الْعَبْدِ إِلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَمْسَكَ عَنْ ذَلِكَ لِعَظِيمِ شَاهِدِ الْجَزَاءِ، أَوْ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْجَزَاءِ الَّذِي لَمْ تَسْمَعْ بِهِ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، أَوْ إِحَالَةً لَهُ عَلَى الْمَرَاتِبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ وَقِسْ عَلَى هَذَا، فَعَلَى قَدْرِ مَا تَبْذُلُ مِنْكَ مُتَقَرِّبًا إِلَى رَبِّكَ يَتَقَرَّبُ إِلَيْكَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا فَلَازِمُ هَذَا التَّقَرُّبِ الْمَذْكُورِ فِي مَرَاتِبِهِ؛ أَيْ مَنْ تَقَرَّبَ إِلَى حَبِيبِهِ بِرُوحِهِ وَجَمِيعِ قُوَاهُ، وَإِرَادَتِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ تَقَرَّبَ الرَّبُّ مِنْهُ سُبْحَانَهُ بِنَفْسِهِ فِي مُقَابَلَةِ تَقَرُّبِ عَبْدِهِ إِلَيْهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute