للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْفَانِي الْمَشُوبِ بِالتَّنْغِيصِ وَأَنْوَاعِ الْغَصَصِ، رَغْبَةً عَنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَشَوْقًا إِلَى ذَلِكَ الْمَلَكُوتِ، وَوَجْدًا بِهَذَا السُّرُورِ، وَطَرَبًا عَلَى هَذَا الْحَدِّ، وَاشْتِيَاقًا لِهَذَا النَّسِيمِ الْوَارِدِ مِنْ مَحَلِّ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ.

وَلَعَمْرُ اللَّهِ إِنَّ مَنْ سَافَرَ إِلَى بَلَدِ الْعَدْلِ وَالْخِصْبِ وَالْأَمْنِ وَالسُّرُورِ صَبَرَ فِي طَرِيقِهِ عَلَى كُلِّ مَشَقَّةٍ وَإِعْوَازٍ وَجَدْبٍ، وَفَارَقَ الْمُتَخَلِّفِينَ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهِمْ، وَأَجَابَ الْمُنَادِي إِذَا نَادَى بِهِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، وَبَذَلَ نَفْسَهُ فِي الْوُصُولِ بَذْلَ الْمُحِبِّ بِالرِّضَا وَالسَّمَاحِ، وَوَاصَلَ السَّيْرَ بِالْغُدُوِّ وَالرَّوَاحِ، فَحَمِدَ عِنْدَ الْوُصُولِ مَسْرَاهُ، وَإِنَّمَا يَحْمَدُ الْمُسَافِرُ السُّرَى عِنْدَ الصَّبَاحِ.

عِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى ... وَفِي الْمَمَاتِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ اللِّقَا

وَمَا هَذَا وَاللَّهِ بِالصَّعْبِ وَلَا بِالشَّدِيدِ، مَعَ هَذَا الْعُمْرِ الْقَصِيرِ، الَّذِي هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تِلْكَ الدَّارِ كَسَاعَةٍ مِنْ نَهَارٍ {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [الأحقاف: ٣٥] ، {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} [يونس: ٤٥] ، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: ٤٦] ، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: ٥٥] ، {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ - قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ - قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: ١١٢ - ١١٤] فَلَوْ أَنَّ أَحَدَنَا يُجَرُّ عَلَى وَجْهِهِ يَتَّقِي بِهِ الشَّوْكَ وَالْحِجَارَةَ إِلَى هَذِهِ الْحَيَاةِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَثِيرًا وَلَا غَبْنًا فِي جَنْبِ مَا يُوَقَّاهُ.

فَوَاحَسْرَتَاهُ عَلَى بَصِيرَةٍ شَاهَدَتْ هَاتَيْنِ الْحَيَاتَيْنِ عَلَى مَا هُمَا عَلَيْهِ، وَعَلَى هِمَّةٍ تُؤْثِرُ الْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى، وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِتَوْفِيقِ مَنْ أَزِمَّةُ الْأُمُورِ بِيَدَيْهِ، وَمِنْهُ ابْتِدَاءُ كُلِّ شَيْءٍ وَانْتِهَاؤُهُ إِلَيْهِ، أَقْعَدَ نُفُوسَ مَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِمُ الشَّقَاوَةُ عَنِ السَّفَرِ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ، وَجَذَبَ قُلُوبَ مَنْ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنْهُ الْحُسْنَى، وَأَقَامَهُمْ فِي الطَّرِيقِ، وَسَهَّلَ عَلَيْهِمْ رُكُوبَ الْأَخْطَارِ، فَأَضَاعَ أُولَئِكَ مَرَاحِلَ أَعْمَارِهِمْ مَعَ الْمُتَخَلِّفِينَ وَقَطَعَ هَؤُلَاءِ مَرَاحِلَ أَعْمَارِهِمْ مَعَ السَّائِرِينَ، وَعُقِدَتِ الْغَبَرَةُ وَثَارَ الْعَجَاجُ، فَتَوَارَى عَنْهُ السَّائِرُونَ وَالْمُتَخَلِّفُونَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>