جَمِيعُهُمْ عَلَيْهَا، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ مَنْ فَاتَهُ الِاسْتِعْدَادُ لَهَا {إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا - وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا - وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى - يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي - فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ - وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر: ٢١ - ٢٦] ، وَهِيَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: ٦٤] .
وَالْحَيَاةُ الْمُتَقَدِّمَةُ كَالنَّوْمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا، وَكُلُّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ وَصْفِ السَّيْرِ وَمَنَازِلِهِ، وَأَحْوَالِ السَّائِرِينَ، وَعُبُودِيَّتِهِمُ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ فَوَسِيلَةٌ إِلَى هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَإِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا كَمَا يُدْخِلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ؟» .
وَكَمَا قِيلَ: تَنَفَّسَتِ الْآخِرَةُ فَكَانَتِ الدُّنْيَا نَفَسًا مِنْ أَنْفَاسِهَا، فَأَصَابَ أَهْلُ السَّعَادَةِ نَفَسَ نَعِيمِهَا، فَهُمْ عَلَى هَذَا النَّفَسِ يَعْمَلُونَ، وَأَصَابَ أَهْلُ الشَّقَاوَةِ نَفَسَ عَذَابِهَا، فَهُمْ عَلَى ذَلِكَ النَّفَسِ يَعْمَلُونَ.
وَإِذَا كَانَتْ حَيَاةُ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي هَذِهِ الدَّارِ حَيَاةً طَيِّبَةً، فَمَا الظَّنُّ بِحَيَاتِهِمْ فِي الْبَرْزَخِ، وَقَدْ تَخَلَّصُوا مِنْ سِجْنِ الدُّنْيَا وَضِيقِهَا؟ فَمَا الظَّنُّ بِحَيَاتِهِمْ فِي دَارِ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ الَّذِي لَا يَزُولُ، وَهُمْ يَرَوْنَ وَجْهَ رَبِّهِمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بُكْرَةً وَعَشِيًّا وَيَسْمَعُونَ خِطَابَهُ؟
فَإِنْ قُلْتَ: مَا سَبَبُ تَخَلُّفِ النَّفْسِ عَنْ طَلَبِ هَذِهِ الْحَيَاةِ الَّتِي لَا خَطَرَ لَهَا، وَمَا الَّذِي زَهَّدَهَا فِيهَا؟ وَمَا سَبَبُ رَغْبَتِهَا فِي الْحَيَاةِ الْفَانِيَةِ الْمُضْمَحِلَّةِ، الَّتِي هِيَ كَالْخَيَالِ وَالْمَنَامِ؟ أَفَسَادٌ فِي تَصَوُّرِهَا وَشُعُورِهَا؟ أَمْ تَكْذِيبٌ بِتِلْكَ الْحَيَاةِ؟ أَمْ لِآفَةٍ فِي الْعَقْلِ، وَعَمًى هُنَاكَ؟ أَمْ إِيثَارٌ لِلْحَاضِرِ الْمَشْهُودِ بِالْعِيَانِ عَلَى الْغَائِبِ الْمَعْلُومِ بِالْإِيمَانِ؟
قِيلَ: بَلْ ذَلِكَ لِمَجْمُوعِ أُمُورٍ مُرَكَّبَةٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَأَقْوَى الْأَسْبَابِ فِي ذَلِكَ: ضَعْفُ الْإِيمَانِ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ رُوحُ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ الْبَاعِثُ عَلَيْهَا، وَالْآمِرُ بِأَحْسَنِهَا، وَالنَّاهِي عَنْ أَقْبَحِهَا، وَعَلَى قَدْرِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ يَكُونُ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ لِصَاحِبِهِ، وَائْتِمَارُ صَاحِبِهِ وَانْتِهَاؤُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: ٩٣] .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute