للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الِانْطِفَاءِ، فَيَتَّقِدُ الثَّانِي وَيُضِيءُ غَايَةَ الْإِضَاءَةِ، وَيَتَّصِلُ ضَوْءُهُ وَيَنْطَفِئُ الْأَوَّلُ، وَالْمُقْتَبِسُ لِحَيَاتِهِ الدَّائِمَةِ مِنْ حَيَاتِهِ الْمُنْقَطِعَةِ إِنَّمَا يَنْتَقِلُ مِنْ دَارٍ مُنْقَطِعَةٍ إِلَى دَارٍ بَاقِيَةٍ، وَقَدْ تَوَسَّطَ الْمَوْتُ بَيْنَ الدَّارَيْنِ، فَهُوَ قَنْطَرَةٌ لَا يُعْبَرُ إِلَى تِلْكَ الدَّارِ إِلَّا عَلَيْهَا، وَبَابٌ لَا يُدْخَلُ إِلَيْهَا إِلَّا مِنْهُ، فَهُمَا حَيَاتَانِ فِي دَارَيْنِ بَيْنَهُمَا الْمَوْتُ، وَكَمَا أَنَّ نُورَ تِلْكَ الدَّارِ مُقْتَبَسٌ مِنْ نُورِ هَذِهِ الدَّارِ، فَحَيَاتُهَا كَذَلِكَ مُقْتَبَسَةٌ مِنْ حَيَاتِهَا، فَعَلَى قَدْرِ نُورِ الْإِيمَانِ فِي هَذِهِ الدَّارِ يَكُونُ نُورُ الْعَبْدِ فِي تِلْكَ الدَّارِ، وَعَلَى قَدْرِ حَيَاتِهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ تَكُونُ حَيَاتُهُ هُنَاكَ.

نَعَمْ؛ هَذَا النُّورُ وَالْحَيَاةُ الَّذِي يُقْتَبَسُ مِنْهُ ذَلِكَ النُّورُ وَالْحَيَاةُ لَا يَنْقَطِعُ، بَلْ يُضِيءُ لِلْعَبْدِ فِي الْبَرْزَخِ وَفِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، وَعَلَى الصِّرَاطِ، فَلَا يُفَارِقُهُ إِلَى دَارِ الْحَيَوَانِ، يُطْفَأُ نُورُ الشَّمْسِ وَهَذَا النُّورُ لَا يُطْفَأُ، وَتَبْطُلُ الْحَيَاةُ الْمَحْسُوسَةُ وَهَذِهِ الْحَيَاةُ لَا تَبْطُلُ، هَذَا أَحَدُ نَوْعَيْ يَقَظَةِ الْقَلْبِ.

النَّوْعُ الثَّانِي: يَقَظَةٌ تَبْعَثُ عَلَى حَيَاةٍ، لَا تُدْرِكُهَا الْعِبَارَةُ، وَلَا يَنَالُهَا التَّوَهُّمُ، وَلَا يُطَابِقُ فِيهَا اللَّفْظُ لِمَعْنَاهُ أَلْبَتَّةَ، وَالَّذِي يُشَارُ بِهِ إِلَيْهَا حَيَاةُ الْمُحِبِّ مَعَ حَبِيبِهِ الَّذِي لَا قِوَامَ لِقَلْبِهِ وَرُوحِهِ وَحَيَاتِهِ إِلَّا بِهِ وَلَا غِنًى لَهُ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلَا قُرَّةَ لِعَيْنِهِ، وَلَا طُمَأْنِينَةَ لِقَلْبِهِ، وَلَا سُكُونَ لِرُوحِهِ إِلَّا بِهِ، فَهُوَ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَقُوَّتِهِ، بَلْ وَمِنْ حَيَاتِهِ، فَإِنَّ حَيَاتَهُ بِدُونِهِ عَذَابٌ وَآلَامٌ، وَهُمُومٌ وَأَحْزَانٌ، فَحَيَاتُهُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى قُرْبِهِ وَحُبِّهِ وَمُصَاحَبَتِهِ، وَعَذَابُ حِجَابِهِ عَنْهُ أَعْظَمُ مِنَ الْعَذَابِ الْآخَرِ، كَمَا أَنَّ نَعِيمَ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ بِإِزَالَةِ ذَلِكَ الْحِجَابِ أَعْظَمُ مِنَ النَّعِيمِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَالتَّمَتُّعِ بِالْحُورِ الْعِينِ، فَهَكَذَا عَذَابُ الْحِجَابِ أَعْظَمُ مِنْ عَذَابِ الْجَحِيمِ، وَلِهَذَا جَمَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِأَوْلِيَائِهِ بَيْنَ النَّعِيمَيْنِ فِي قَوْلِهِ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: ٢٦] فَالْحُسْنَى الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ: رُؤْيَةُ وَجْهِهِ الْكَرِيمِ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ، وَجَمَعَ لِأَعْدَائِهِ بَيْنَ الْعَذَابَيْنِ فِي قَوْلِهِ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ - ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} [المطففين: ١٥ - ١٦] .

وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْغَفْلَةَ هِيَ نَوْمُ الْقَلْبِ عَنْ طَلَبِ هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَهِيَ حِجَابٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ كُشِفَ هَذَا الْحِجَابَ بِالذِّكْرِ وَإِلَّا تَكَاثَفَ حَتَّى يَصِيرَ حِجَابَ بِطَالَةٍ وَلَعِبٍ وَاشْتِغَالٍ بِمَا لَا يُفِيدُ، فَإِنْ بَادَرَ إِلَى كَشْفِهِ وَإِلَّا تَكَاثَفَ حَتَّى يَصِيرَ حِجَابَ مَعَاصٍ وَذُنُوبٍ صِغَارٍ تُبْعِدُهُ عَنِ اللَّهِ، فَإِنْ بَادَرَ إِلَى كَشْفِهِ وَإِلَّا تَكَاثَفَ حَتَّى يَصِيرَ حِجَابَ كَبَائِرٍ تُوجِبُ مَقْتَ

<<  <  ج: ص:  >  >>