للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قَوْلُ سَكْرَانِ الْفَرَحِ بِوَجْدِ رَاحِلَتِهِ فِي الْمَفَازَةِ، بَعْدَ أَنِ اسْتَشْعَرَ الْمَوْتَ " اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ " أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ فَرَحِهِ، وَسَكْرَةُ الْفَرَحِ فَوْقَ سَكْرَةِ الشَّرَابِ، فَصَوِّرْ فِي نَفْسِكَ حَالَ فَقِيرٍ مَعْدُومٍ، عَاشِقٍ لِلدُّنْيَا أَشَدَّ الْعِشْقِ، ظَفِرَ بِكَنْزٍ عَظِيمٍ، فَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ آمِنًا مُطْمَئِنًّا، كَيْفَ تَكُونُ سَكْرَتُهُ؟ أَوْ مَنْ غَابَ عَنْهُ غُلَامُهُ بِمَالٍ لَهُ عَظِيمٍ مُدَّةَ سِنِينَ، حَتَّى أَضَرَّ بِهِ الْعَدَمُ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ انْتِظَارٍ لَهُ بِمَالِهِ كُلِّهِ، وَقَدْ كَسَبَ أَضْعَافَهُ؟

وَقَدْ يُوجِبُهُ غَضَبٌ شَدِيدٌ، يَحُولُ بَيْنَ الْغَضْبَانِ وَبَيْنَ تَمْيِيزِهِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ سُكْرُ الْغَضَبِ أَقْوَى مِنْ سُكْرِ الطَّرَبِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يَقْضِ الْقَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» وَلَا يَسْتَرِيبُ مَنْ شَمَّ رَائِحَةَ الْفِقْهِ أَنَّ الْغَضَبَ إِذَا وَصَلَ بِصَاحِبِهِ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ، فَطَلَّقَ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ، وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ الْإِغْلَاقَ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي إِغْلَاقٍ» أَنَّهُ الْغَضَبُ، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: أَظُنُّهُ الْغَضَبَ، وَالشَّافِعِيُّ سَمَّى نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ نَذْرَ الْغَلْقِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَضْبَانَ قَدِ انْغَلَقَ عَلَيْهِ بَابُ الْقَصْدِ وَالتَّمْيِيزِ بِشِدَّةِ غَضَبِهِ، وَإِذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ غَلْقًا فَالْغَضَبُ الشَّدِيدُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ غَلْقًا، وَكَذَلِكَ السُّكْرُ غَلْقٌ، وَالْجُنُونُ غَلْقٌ. فَالْغَلْقُ وَالْإِغْلَاقُ أَيْضًا كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِمَنِ انْغَلَقَ عَلَيْهِ بَابُ الْقَصْدِ وَالتَّمْيِيزِ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ. وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى إِغَاثَةَ اللَّهْفَانِ فِي طَلَاقِ الْغَضْبَانِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>