وَقَدْ تَكَلَّمُوا عَلَى الْمَعْرِفَةِ بِآثَارِهَا وَشَوَاهِدِهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مِنْ أَمَارَاتِ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ: حُصُولُ الْهَيْبَةِ مِنْهُ، فَمَنِ ازْدَادَتْ مَعْرِفَتُهُ ازْدَادَتْ هَيْبَتُهُ.
وَقَالَ أَيْضًا: الْمَعْرِفَةُ تُوجِبُ السُّكُونَ، فَمَنِ ازْدَادَتْ مَعْرِفَتُهُ ازْدَادَتْ سَكِينَتُهُ.
وَقَالَ لِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا: مَا عَلَامَةُ الْمَعْرِفَةِ الَّتِي يُشِيرُونَ إِلَيْهَا؟ فَقُلْتُ لَهُ: أُنْسُ الْقَلْبِ بِاللَّهِ، قَالَ لِي: عَلَامَتُهَا أَنْ يُحِسَّ بِقُرْبِ قَلْبِهِ مِنَ اللَّهِ، فَيَجِدُهُ قَرِيبًا مِنْهُ.
وَقَالَ الشِّبْلِيُّ: لَيْسَ لِعَارِفٍ عَلَاقَةٌ، وَلَا لِمُحِبٍّ شَكْوَى، وَلَا لِعَبْدٍ دَعْوَى، وَلَا لِخَائِفٍ قَرَارٌ. وَلَا لِأَحَدٍ مِنَ اللَّهِ فِرَارٌ.
وَهَذَا كَلَامٌ جَيِّدٌ، فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ الصَّحِيحَةَ تَقْطَعُ مِنَ الْقَلْبِ الْعَلَائِقَ كُلَّهَا، وَتُعَلِّقُهُ بِمَعْرُوفِهِ، فَلَا يَبْقَى فِيهِ عَلَاقَةٌ بِغَيْرِهِ، وَلَا تَمُرُّ بِهِ الْعَلَائِقُ إِلَّا وَهِيَ مُجْتَازَةٌ، لَا تَمُرُّ مُرُورَ اسْتِيطَانٍ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَاصِمٍ: مَنْ كَانَ بِاللَّهِ أَعْرَفَ كَانَ لَهُ أَخْوَفَ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: ٢٨] وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَعْرَفُكُمْ بِاللَّهِ، وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً» .
وَقَالَ آخَرُ: مَنْ عَرَفَ اللَّهَ تَعَالَى ضَاقَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا بِسِعَتِهَا.
وَقَالَ غَيْرُهُ: مَنْ عَرَفَ اللَّهَ تَعَالَى اتَّسَعَ عَلَيْهِ كُلُّ ضِيقٍ.
وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، فَإِنَّهُ يَضِيقُ عَلَيْهِ كُلُّ مَكَانٍ لَا يُسَاعَدُ فِيهِ عَلَى شَأْنِهِ وَمَطْلُوبِهِ، وَيَتَّسِعُ عَلَيْهِ مَا ضَاقَ عَلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ، وَلَا هُوَ مُسَاكِنٌ لَهُ بِقَلْبِهِ، فَقَلْبُهُ غَيْرُ مَحْبُوسٍ فِيهِ.
وَالْأَوَّلُ: فِي بِدَايَةِ الْمَعْرِفَةِ. وَالثَّانِي: فِي نِهَايَتِهَا الَّتِي يَصِلُ إِلَيْهَا الْعَبْدُ.
وَقَالَ آخَرُ: مَنْ عَرَفَ اللَّهَ تَعَالَى صَفَا لَهُ الْعَيْشُ، فَطَابَتْ لَهُ الْحَيَاةُ، وَهَابَهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَذَهَبَ عَنْهُ خَوْفُ الْمَخْلُوقِينَ، وَأَنِسَ بِاللَّهِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: مَنْ عَرَفَ اللَّهَ قَرَّتْ عَيْنُهُ بِاللَّهِ، وَقَرَّتْ عَيْنُهُ بِالْمَوْتِ، وَقَرَّتْ بِهِ كُلُّ عَيْنٍ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفِ اللَّهَ تَقَطَّعَ قَلْبُهُ عَلَى الدُّنْيَا حَسَرَاتٍ، وَمَنْ عَرَفَ اللَّهَ لَمْ يَبْقَ لَهُ رَغْبَةٌ