للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَانْظُرْ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: ١٥٨] هَلْ يَحْتَمِلُ هَذَا التَّقْسِيمُ وَالتَّنْوِيعُ: تَأْوِيلَ إِتْيَانِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ بِإِتْيَانِ مَلَائِكَتِهِ أَوْ آيَاتِهِ؟ وَهَلْ يَبْقَى مَعَ هَذَا السِّيَاقِ شُبْهَةٌ أَصْلًا: أَنَّهُ إِتْيَانُهُ بِنَفْسِهِ؟ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: ١٦٣]- إِلَى أَنْ قَالَ - {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: ١٦٤] فَفَرَّقَ بَيْنَ الْإِيحَاءِ الْعَامِّ، وَالتَّكْلِيمِ الْخَاصِّ، وَجَعَلَهُمَا نَوْعَيْنِ، ثُمَّ أَكَّدَ فِعْلَ التَّكْلِيمِ بِالْمَصْدَرِ الرَّافِعِ لِتَوَهُّمِ مَا يَقُولُهُ الْمُحَرِّفُونَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى: ٥١] فَنَوَّعَ تَكْلِيمَهُ إِلَى تَكْلِيمٍ بِوَاسِطَةٍ، وَتَكْلِيمٍ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: ١٤٤] فَفَرَّقَ بَيْنَ الرِّسَالَةِ وَالْكَلَامِ، وَالرِّسَالَةُ إِنَّمَا هِيَ بِكَلَامِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ عَيَانًا، كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فِي الصَّحْوِ، لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ، وَكَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ فِي الظَّهِيرَةِ صَحْوًا لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْبَيَانَ وَالْكَشْفَ وَالِاحْتِرَازَ: يُنَافِي إِرَادَةَ التَّأْوِيلِ قَطْعًا، وَلَا يَرْتَابُ فِي هَذَا مَنْ لَهُ عَقْلٌ وَدِينٌ.

قَوْلُهُ: " وَظَهَرَتْ شَوَاهِدُهَا فِي الصَّنْعَةِ ".

هَذَا هُوَ الطَّرِيقُ الثَّانِي مِنْ طُرُقِ إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ، وَهُوَ دَلَالَةُ الصَّنْعَةِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ الْمَخْلُوقَ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ خَالِقِهِ، عَلَى حَيَاتِهِ وَعَلَى قُدْرَتِهِ، وَعَلَى عِلْمِهِ وَمَشِيئَتِهِ، فَإِنَّ الْفِعْلَ الِاخْتِيَارِيَّ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ اسْتِلْزَامًا ضَرُورِيًا، وَمَا فِيهِ مِنَ الْإِتْقَانِ وَالْإِحْكَامِ وَوُقُوعِهِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ يَدُلُّ عَلَى حِكْمَةِ فَاعِلِهِ وَعِنَايَتِهِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْإِحْسَانِ وَالنَّفْعِ، وَوُصُولِ الْمَنَافِعِ الْعَظِيمَةِ إِلَى الْمَخْلُوقِ يَدُلُّ عَلَى رَحْمَةِ خَالِقِهِ، وَإِحْسَانِهِ وَجُودِهِ، وَمَا

<<  <  ج: ص:  >  >>