للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَفَنَاءُ الْمَعْرِفَةِ فِي الْمَعْرُوفِ: هُوَ غَيْبَةُ الْعَارِفِ بِمَعْرُوفِهِ عَنْ شُعُورِهِ بِمَعْرِفَتِهِ وَمَعَانِيهَا فَيَفْنَى بِهِ سُبْحَانَهُ عَنْ وَصْفِهِ هُنَا وَمَا قَامَ بِهِ، فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ فِعْلُهُ وَوَصْفُهُ، فَإِذَا اسْتَغْرَقَ فِي شُهُودِ الْمَعْرُوفِ فَنِيَ عَنْ صِفَةِ نَفْسِهِ وَفِعْلِهَا، وَلَمَّا كَانَتِ الْمَعْرِفَةُ فَوْقَ الْعِلْمِ وَأَخَصَّ مِنْهُ كَانَ فَنَاءُ الْمَعْرِفَةِ فِي الْمَعْرُوفِ مُسْتَلْزِمًا لِفَنَاءِ الْعِلْمِ فِي الْمَعْرِفَةِ، فَيَفْنَى أَوَّلًا فِي الْمَعْرِفَةِ ثُمَّ تَفْنَى الْمَعْرِفَةُ فِي الْمَعْرُوفِ.

وَأَمَّا فَنَاءُ الْعِيَانِ فِي الْمُعَايَنِ: فَالْعِيَانُ فَوْقَ الْمَعْرِفَةِ، فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ مَرْتَبَةٌ فَوْقَ الْعِلْمِ وَدُونَ الْعِيَانِ، فَإِذَا انْتَقَلَ مِنَ الْمَعْرِفَةِ إِلَى الْعِيَانِ فَنِيَ عِيَانُهُ فِي مُعَايَنِهِ، كَمَا فَنِيَتْ مَعْرِفَتُهُ فِي مَعْرُوفِهِ.

وَأَمَّا فَنَاءُ الطَّلَبِ فِي الْوُجُودِ: فَهُوَ أَنْ لَا يَبْقَى لِصَاحِبِ هَذَا الْفَنَاءِ طَلَبٌ؛ لِأَنَّهُ ظَفِرَ بِالْمَطْلُوبِ الْمُشَاهَدِ، وَصَارَ وَاجِدًا بَعْدَ أَنْ كَانَ طَالِبًا، فَكَانَ إِدْرَاكُهُ أَوَّلًا عِلْمًا، ثُمَّ قَوِيَ فَصَارَ مَعْرِفَةً، ثُمَّ قَوِيَ فَصَارَ عِيَانًا، ثُمَّ تَمَكَّنَ فَصَارَ مَعْرِفَةً، ثُمَّ تَمَكَّنَ فَصَارَ وُجُودًا.

وَلَعَلَّكَ أَنَّ تَسْتَنْكِرَ - أَوْ تَسْتَبْعِدَ - هَذِهِ الْأَلْفَاظَ وَمَعَانِيهَا، فَاسْمَعْ ضَرْبَ مَثَلٍ يُهَوِّنُ عَلَيْكَ ذَلِكَ، وَيُقَرِّبُهُ مِنْكَ: مِثْلَ مَلِكٍ - عَظِيمِ السُّلْطَانِ، شَدِيدِ السَّطْوَةِ، تَامِّ الْهَيْبَةِ، قَوِيِّ الْبَأْسِ - اسْتَدْعَى رَجُلًا مِنْ رَعِيَّتِهِ قَدِ اشْتَدَّ جُرْمُهُ وَعِصْيَانُهُ لَهُ، فَحَضَرَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ إِتْلَافُهُ، فَأَحْوَالُهُ فِي حَالِ حُضُورِهِ مُخْتَلِفَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يُشَاهِدُهُ، فَتَارَةً يَتَذَكَّرُ جُرْمَهُ وَسَطْوَةَ السُّلْطَانِ وَقُدْرَتَهُ عَلَيْهِ، فَيُفَكِّرُ فِيمَا سَيَلْقَاهُ، وَتَارَةً تَقْهَرُهُ الْحَالُ الَّتِي هُوَ فِيهَا، فَلَا يَذْكُرُ مَا كَانَ مِنْهُ وَلَا مَا أُحْضِرَ مِنْ أَجْلِهِ، لِغَلَبَةِ الْخَوْفِ عَلَى قَلْبِهِ وَيَأْسِهِ مِنَ الْخَلَاصِ، وَلَكِنَّ عَقْلَهُ وَذِهْنَهُ مَعَهُ، وَتَارَةً يَغِيبُ قَلْبُهُ وَذِهْنُهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا يَشْعُرُ أَيْنَ هُوَ؟ وَلَا مَنْ إِلَى جَانِبِهِ، وَلَا بِمَا يُرَادُ بِهِ، وَرُبَّمَا جَرَى عَلَى لِسَانِهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ مَا لَا يُرِيدُهُ، فَهَذَا فَنَاءُ الْخَوْفِ.

وَمِثَالٌ ثَانٍ فِي فَنَاءِ الْحُبِّ: مُحِبٌّ اسْتَغْرَقَتْ مَحَبَّتُهُ شَخْصًا فِي غَايَةِ الْجَمَالِ وَالْبَهَاءِ، وَأَكْبَرُ أُمْنِيَّتِهِ الْوُصُولُ إِلَيْهِ، وَمُحَادَثَتُهُ وَرُؤْيَتُهُ، فَبَيْنَا هُوَ عَلَى حَالِهِ قَدْ مَلَأَ الْحُبُّ قَلْبَهُ، وَقَدِ اسْتَغْرَقَ فِكْرُهُ فِي مَحْبُوبِهِ، وَإِذَا بِهِ قَدْ دَخَلَ عَلَيْهِ مَحْبُوبُهُ بَغْتَةً عَلَى أَحْسَنِ هَيْئَةٍ، فَقَابَلَهُ قَرِيبًا مِنْهُ، وَلَيْسَ دُونَهُ سِوَاهُ، أَفَلَيْسَ هَذَا حَقِيقًا أَنْ يَفْنَى عَنْ شُهُودِهِ بَمَشْهُودِهِ، بَلْ وَعَنْ حُبِّهِ بِمَحْبُوبِهِ؟ فَيَمْلِكُ عَلَيْهِ الْمَحْبُوبُ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَإِرَادَتَهُ وَإِحْسَاسَهُ، وَيَغِيبُ بِهِ عَنْ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ؟ وَانْظُرْ إِلَى النِّسْوَةِ كَيْفَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ لَمَّا طَلَعَ عَلَيْهِنَّ يُوسُفُ، وَشَاهَدْنَ ذَلِكَ الْجَمَالَ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُنَّ مِنْ عِشْقِهِ وَمَحَبَّتِهِ مَا تَقَدَّمَ لِامْرَأَةِ الْعَزِيزِ، فَأَفْنَاهُنَّ شُهُودُ جَمَالِهِ عَنْ حَالِهِنَّ حَتَّى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ.

<<  <  ج: ص:  >  >>