وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الدِّينَ هُوَ إِثْبَاتُ الْأَسْبَابِ، وَالْوُقُوفُ مَعَهَا، وَالنَّظَرُ إِلَيْهَا، وَالِالْتِفَاتُ إِلَيْهَا، وَإِنَّهُ لَا دِينَ إِلَّا بِذَلِكَ، كَمَا لَا حَقِيقَةَ إِلَّا بِهِ، فَالْحَقِيقَةُ وَالشَّرِيعَةُ: مَبْنَاهُمَا عَلَى إِثْبَاتِهَا، لَا عَلَى مَحْوِهَا، وَلَا نُنْكِرُ الْوُقُوفَ مَعَهَا، فَإِنَّ الْوُقُوفَ مَعَهَا فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، لَا يَتِمُّ إِسْلَامُهُ وَإِيمَانُهُ إِلَّا بِذَلِكَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَمْرَنَا بِالْوُقُوفِ مَعَهَا، بِمَعْنَى أَنَّا نُثْبِتُ الْحُكْمَ إِذَا وُجِدَتْ، وَنَنْفِيهِ إِذَا عُدِمَتْ، وَنَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى حُكْمِهِ الْكَوْنِيِّ، فَوُقُوفُنَا مَعَهَا - بِهَذَا الِاعْتِبَارِ - هُوَ مُقْتَضَى الْحَقِيقَةِ وَالشَّرِيعَةِ، وَهَلْ يُمَكِّنُ حَيَوَانًا أَنْ يَعِيشَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا إِلَّا بِوُقُوفِهِ مَعَ الْأَسْبَابِ؟ فَيَنْتَجِعَ مَسَاقِطَ غَيْثِهَا وَمَوَاقِعَ قَطْرِهَا، وَيَرْعَى فِي خَصِبِهَا دُونَ جَدِبِهَا، وَيُسَالِمَهَا وَلَا يَحَارُ بِهَا، فَكَيْفَ وَتَنَفُّسُهُ فِي الْهَوَاءِ بِهَا، وَتَحَرُّكُهُ بِهَا، وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ بِهَا، وَغِذَاؤُهُ بِهَا، وَدَوَاؤُهُ بِهَا، وَهُدَاهُ بِهَا، وَسَعَادَتُهُ وَفَلَاحُهُ بِهَا؟ وَضَلَالُهُ وَشَقَاؤُهُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهَا وَإِلْغَائِهَا، فَأَسْعَدُ النَّاسِ فِي الدَّارَيْنِ: أُقْوَمُهُمْ بِالْأَسْبَابِ الْمُوصِلَةِ إِلَى مَصَالِحِهِمَا، وَأَشْقَاهُمْ فِي الدَّارَيْنِ: أَشُدُّهُمْ تَعْطِيلًا لِأَسْبَابِهِمَا، فَالْأَسْبَابُ مَحَلُّ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَالنَّجَاحِ وَالْخُسْرَانِ.
وَبِالْأَسْبَابِ عُرِفَ اللَّهُ، وَبِهَا عُبِدَ اللَّهُ، وَبِهَا أُطِيعَ اللَّهُ، وَبِهَا تَقَرَّبَ إِلَيْهِ الْمُتَقَرِّبُونَ، وَبِهَا نَالَ أَوْلِيَاؤُهُ رِضَاهُ وَجِوَارَهُ فِي جَنَّتِهِ، وَبِهَا نُصِرَ حِزْبُهُ وَدِينُهُ، وَأَقَامُوا دَعْوَتَهُ، وَبِهَا أَرْسَلَ رُسُلَهُ وَشَرَعَ شَرَائِعَهُ، وَبِهَا انْقَسَمَ النَّاسُ إِلَى سَعِيدٍ وَشَقِيٍّ، وَمُهْتَدٍ وَغَوِيٍّ، فَالْوُقُوفُ مَعَهَا وَالِالْتِفَاتُ إِلَيْهَا وَالنَّظَرُ إِلَيْهَا: هُوَ الْوَاجِبُ شَرْعًا، كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ قَدَرًا، وَلَا تَكُنْ مِمَّنْ غَلُظَ حِجَابُهُ، وَكَثُفَ طَبْعُهُ فَيَقُولُ: لَا نَقِفُ مَعَهَا وُقُوفَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا مُسْتَقِلَّةٌ بِالْإِحْدَاثِ وَالتَّأْثِيرِ، وَأَنَّهَا أَرْبَابٌ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِنْ وَجَدْتَ أَحَدًا يَزْعُمُ ذَلِكَ، وَيَظُنُّ أَنَّهَا أَرْبَابٌ، وَآلِهَةٌ مَعَ اللَّهِ مُسْتَقِلَّةٌ بِالْإِيجَادِ، أَوْ أَنَّهَا عَوْنٌ لِلَّهِ يَحْتَاجُ فِي فِعْلِهِ إِلَيْهَا، أَوْ أَنَّهَا شُرَكَاءُ لَهُ: فَشَأْنُكَ بِهِ، فَمَزِّقْ أَدِيمَهُ، وَتَقَرَّبْ إِلَى اللَّهِ بِعَدَاوَتِهِ مَا اسْتَطَعْتَ، وَإِلَّا فَمَا هَذَا النَّفْيُ لِمَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ؟ وَالْإِلْغَاءُ لِمَا اعْتَبَرَهُ؟ وَالْإِهْدَارُ لِمَا حَقَّقَهُ؟ وَالْحَطُّ وَالْوَضْعُ لِمَا نَصَبَهُ؟ وَالْمَحْوُ لِمَا كَتَبَهُ؟ وَالْعَزْلُ لِمَا وَلَّاهُ؟ فَإِنْ زَعَمَتْ أَنَّكَ تَعْزِلُهَا عَنْ رُتْبَةِ الْإِلَهِيَّةِ فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَنْ وَلَّاهَا هَذِهِ الرُّتْبَةَ حَتَّى تَجْعَلَ سَعْيَكَ فِي عَزْلِهَا عَنْهَا؟
وَيَالَلَّهِ مَا أَجْهَلَ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالتَّصَوُّفِ، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ إِلَّا بِإِلْغَائِهَا وَمَحْوِهَا، وَإِهْدَارِهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ قُوًى وَلَا طَبَائِعَ، وَلَا غَرَائِزَ لَهَا تَأْثِيرُ مُوجِبَةٍ مَا، وَلَا فِي النَّارِ حَرَارَةً وَلَا إِحْرَاقًا، وَلَا فِي الدَّوَاءِ قُوَّةً مُذْهِبَةً لِلدَّاءِ، وَلَا فِي الْخُبْزِ قُوَّةً مُشْبِعَةً، وَلَا فِي الْمَاءِ قُوَّةً مُرَوِّيَةً، وَلَا فِي الْعَيْنِ قُوَّةً بَاصِرَةً، وَلَا فِي الْأَنْفِ قُوَّةً شَامَّةً، وَلَا فِي السُّمِّ قُوَّةً قَاتِلَةً، وَلَا فِي الْحَدِيدِ قُوَّةً قَاطِعَةً؟
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute