للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الرَّبِّ تَعَالَى، وَجَعَلُوا ذَلِكَ أَصْلًا فِي الْجَبْرِ، وَإِبْطَالِ نِسْبَةِ الْأَفْعَالِ إِلَى الْعِبَادِ، وَتَحْقِيقِ نِسْبَتِهَا إِلَى الرَّبِّ وَحْدَهُ، وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُمْ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ، فَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَوَجَبَ طَرْدُهُ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، فَيُقَالُ: مَا صَلَّيْتَ إِذْ صَلَّيْتَ، وَمَا صُمْتَ إِذْ صُمْتَ، وَمَا ضَحَّيْتَ إِذْ ضَحَّيْتَ، وَلَا فَعَلْتَ كُلَّ فِعْلٍ إِذْ فَعَلْتَهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ فَعَلَ ذَلِكَ، فَإِنْ طَرَدُوا ذَلِكَ لَزِمَهُمْ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ - طَاعَتِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ - إِذْ لَا فَرْقَ، فَإِنْ خَصُّوهُ بِالرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْدَهُ وَأَفْعَالِهِ جَمِيعِهَا، أَوْ رَمْيِهِ وَحْدَهُ؛ تَنَاقَضُوا، فَهَؤُلَاءِ لَمْ يُوَفَّقُوا لِفَهْمِ مَا أُرِيدَ بِالْآيَةِ.

وَبَعْدُ، فَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ رَمْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ بِقَبْضَةٍ مِنَ الْحَصْبَاءِ، فَلَمْ تَدَعْ وَجْهَ أَحَدٍ مِنْهُمْ إِلَّا أَصَابَتْهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تِلْكَ الرَّمْيَةَ مِنَ الْبَشَرِ لَا تَبْلُغُ هَذَا الْمَبْلَغَ، فَكَانَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَبْدَأُ الرَّمْيِ، وَهُوَ الْحَذْفُ، وَمِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نِهَايَتُهُ، وَهُوَ الْإِيصَالُ، فَأَضَافَ إِلَيْهِ رَمْيَ الْحَذْفِ الَّذِي هُوَ مَبْدَؤُهُ، وَنَفَى عَنْهُ رَمْيَ الْإِيصَالِ الَّذِي هُوَ نِهَايَتُهُ، وَنَظِيرُ هَذَا: قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ نَفْسِهَا {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} [الأنفال: ١٧] ثُمَّ قَالَ: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: ١٧] فَأَخْبَرَهُ: أَنَّهُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي تَفَرَّدَ بِقَتْلِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِكُمْ أَنْتُمْ، كَمَا تَفَرَّدَ بِإِيصَالِ الْحَصَى إِلَى أَعْيُنِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِهِ وَلَكِنْ وَجْهُ الْإِشَارَةِ بِالْآيَةِ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَقَامَ أَسْبَابًا ظَاهِرَةً، كَدَفْعِ الْمُشْرِكِينَ، وَتَوَلِّى دَفْعِهِمْ، وَإِهْلَاكِهِمْ بِأَسْبَابٍ بَاطِنَةٍ غَيْرِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَظْهَرُ لِلنَّاسِ، فَكَانَ مَا حَصَلَ مِنَ الْهَزِيمَةِ وَالْقَتْلِ وَالنُّصْرَةِ مُضَافًا إِلَيْهِ وَبِهِ، وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ.

قَالَ: " الْجَمْعُ: مَا أَسْقَطَ التَّفْرِقَةَ، وَقَطَعَ الْإِشَارَةَ، وَشَخَصَ عَنِ الْمَاءِ وَالطِّينِ، بَعْدَ صِحَّةِ التَّمْكِينِ، وَالْبَرَاءَةِ مِنَ التَّلْوِينِ، وَالْخَلَاصِ مِنْ شُهُودِ الثَّنَوِيَّةِ، وَالتَّنَافِي مِنْ إِحْسَاسِ الِاعْتِلَالِ، وَالتَّنَافِي مِنْ شُهُودِ شُهُودِهَا، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: جَمْعُ عِلْمٍ، ثُمَّ جَمْعُ وُجُودٍ، ثُمَّ جَمْعُ عَيْنٍ.

قَوْلُهُ: " الْجَمْعُ: مَا أَسْقَطَ التَّفْرِقَةَ " هَذَا حَدٌّ غَيْرُ مُحْصِّلٍ لِلْفَرْقِ بَيْنَ مَا يُحْمَدُ وَمَا

<<  <  ج: ص:  >  >>