هَذَا الْجَمْعَ يَحْصُلُ لِلصِّدِّيقِ وَالزِّنْدِيقِ، وَلِلْمَلَاحِدَةِ وَالِاتِّحَادِيَّةِ مِنْهُ حَظٌّ كَبِيرٌ، وَحَوْلَهُ يُدَنْدِنُونَ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ نِهَايَةُ التَّحْقِيقِ، فَأَيْنَ تَحْقِيقُ الْعُبُودِيَّةِ، وَالْقِيَامُ بِأَعْبَائِهَا، وَاحْتِمَالُ فَرَائِضِهَا وَسُنَنِهَا وَأَدَائِهَا، وَالْجِهَادُ لِأَعْدَاءِ اللَّهِ، وَالدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَحَمُّلُ الْأَذَى فِي اللَّهِ فِي هَذَا الْجَمْعِ؟ ! وَأَيْنَ مَعْرِفَةُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ فِيهِ مُفَصَّلًا؟ وَأَيْنَ مَعْرِفَةُ مَا يُحِبُّهُ الرَّبُّ تَعَالَى، وَيَكْرَهُهُ مُفَصَّلًا؟ وَأَيْنَ مَعْرِفَةُ خَيْرِ الْخَيْرَيْنِ وَشَرِّ الشَّرَّيْنِ فِيهِ؟ وَأَيْنَ الْعِلْمُ بِمَرَاتِبِ الْعُبُودِيَّةِ وَمَنَازِلِهَا فِيهِ؟ ! .
فَالْحَقُّ أَنَّ نِهَايَةَ السَّالِكِينَ تَكْمِيلُ مَرْتَبَةِ الْعُبُودِيَّةِ صَرْفًا، وَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ لِبَنِي الطَّبِيعَةِ، وَإِنَّمَا خُصَّ بِذَلِكَ الْخَلِيلَانِ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْخَلْقِ، أَمَّا إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ شَهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ وَفَّى، وَأَمَّا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - فَإِنَّهُ كَمَّلَ مَرْتَبَةَ الْعُبُودِيَّةِ، فَاسْتَحَقَّ التَّقْدِيمَ عَلَى سَائِرِ الْخَلَائِقِ، فَكَانَ صَاحِبَ الْوَسِيلَةِ وَالشَّفَاعَةِ الَّتِي يَتَأَخَّرُ عَنْهَا جَمِيعُ الرُّسُلِ، وَيَقُولُ هُوَ: أَنَا لَهَا، وَلِهَذَا ذَكَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْعُبُودِيَّةِ فِي أَعْلَى مَقَامَاتِهِ، وَأَشْرَفِ أَحْوَالِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: ١] وَقَوْلِهِ: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن: ١٩] وَقَوْلِهِ: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: ٢٣] وَقَوْلِهِ: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: ١] وَلِهَذَا يَقُولُ الْمَسِيحُ، حِينَ يُرْغَبُ إِلَيْهِ فِي الشَّفَاعَةِ: اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ، عَبْدٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَاسْتَحَقَّ تِلْكَ الرُّتْبَةَ الْعُلْيَا بِتَكْمِيلِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ، وَبِكَمَالِ مَغْفِرَةِ اللَّهِ لَهُ.
فَرَجَعَ الْأَمْرُ إِلَى أَنَّ غَايَةَ الْمَقَامَاتِ وَنِهَايَتَهَا: هُوَ التَّوْبَةُ وَالْعُبُودِيَّةُ الْمَحْضَةُ، لَا جَمْعُ الْعَيْنِ، وَلَا جَمْعُ الْوُجُودِ، وَلَا تَلَاشِي الِاتِّصَالِ.
فَإِنْ قُلْتَ: فَهَذَا الْجَمْعُ إِنَّمَا يَحْصُلُ لِمَنْ قَامَ بِحَقِيقَةِ التَّوْبَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ.
قِيلَ: لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْجَمْعُ الَّذِي يَحْصُلُ لِمَنْ قَامَ بِذَلِكَ: هُوَ جَمْعُ الرُّسُلِ وَخُلَفَائِهِمْ، وَهُوَ جَمْعُ الْهِمَّةِ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ؛ مَحَبَّةً وَإِنَابَةً وَتَوَكُّلًا، وَخَوْفًا وَرَجَاءً
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute