وَلَا يَحْسُنُ الْعَطْفُ لِأَجْلِ الْفَصْلِ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى ذَلِكَ قَطْعًا، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى عَلَى خِلَافِهِ، وَهُوَ أَنَّ قِيَامَهُ بِالْقِسْطِ مُخْتَصٌّ بِهِ، كَمَا أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْإِلَهِيَّةِ، فَهُوَ وَحْدَهُ الْإِلَهُ الْمَعْبُودُ الْمُسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ، وَهُوَ وَحْدَهُ الْمُجَازِي الْمُثِيبُ الْمُعَاقِبُ بِالْعَدْلِ.
قَوْلُهُ: " لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ "، ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَنَّهُ قَالَ: الْأُولَى وَصْفٌ وَتَوْحِيدٌ، وَالثَّانِيَةُ: رَسْمٌ وَتَعْلِيمٌ، أَيْ قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّ الْأُولَى تَضَمَّنَتْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَهِدَ بِهَا وَأَخْبَرَ بِهَا، وَالتَّالِي لِلْقُرْآنِ إِنَّمَا يُخْبِرُ عَنْ شَهَادَتِهِ هُوَ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ شَهَادَةٌ مِنَ التَّالِي نَفْسِهِ، فَأَعَادَ سُبْحَانَهُ ذِكْرَهَا مُجَرَّدَةً لِيَقُولَهَا التَّالِي، فَيَكُونَ شَاهِدًا هُوَ أَيْضًا.
وَأَيْضًا فَالْأُولَى: خَبَرٌ عَنِ الشَّهَادَةِ بِالتَّوْحِيدِ، وَالثَّانِيَةُ: خَبَرٌ عَنْ نَفْسِ التَّوْحِيدِ، وَخَتَمَ بِقَوْلِهِ: {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: ١٨] فَتَضَمَّنَتِ الْآيَةُ تَوْحِيدَهُ وَعَدْلَهُ، وَعِزَّتَهُ وَحِكْمَتَهُ، فَالتَّوْحِيدُ: يَتَضَمَّنُ ثُبُوتَ صِفَاتِ كَمَالِهِ، وَنُعُوتِ جَلَالِهِ، وَعَدَمَ الْمُمَاثِلِ لَهُ فِيهَا وَعِبَادَتَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالْعَدْلُ يَتَضَمَّنُ وَضْعَهُ الْأَشْيَاءَ مَوْضِعَهَا، وَتَنْزِيلَهَا مَنَازِلَهَا، وَأَنَّهُ لَمْ يَخُصَّ شَيْئًا مِنْهَا إِلَّا بِمُخَصِّصٍ اقْتَضَى ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يُعَاقِبُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ، وَلَا يَمْنَعُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعَطَاءَ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ مُسْتَحِقًّا، وَالْعِزَّةُ تَتَضَمَّنُ كَمَالَ قُدْرَتِهِ وَقُوَّتِهِ وَقَهْرِهِ، وَالْحِكْمَةُ تَتَضَمَّنُ كَمَالَ عِلْمِهِ، وَخِبْرَتِهِ، وَأَنَّهُ أَمَرَ وَنَهَى، وَخَلَقَ وَقَدَّرَ، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ وَالْغَايَاتِ الْحَمِيدَةِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا كَمَالَ الْحَمْدِ.
فَاسْمُهُ الْعَزِيزُ يَتَضَمَّنُ الْمُلْكَ، وَاسْمُهُ الْحَكِيمُ يَتَضَمَّنُ الْحَمْدَ، وَأَوَّلُ الْآيَةِ يَتَضَمَّنُ التَّوْحِيدَ، وَذَلِكَ حَقِيقَةُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ مَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِهِ، وَالْحَكِيمُ الَّذِي إِذَا أَمَرَ بِأَمْرٍ كَانَ حَسَنًا فِي نَفْسِهِ وَإِذَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ كَانَ قَبِيحًا فِي نَفْسِهِ، وَإِذَا أَخْبَرَ بِخَبَرٍ كَانَ صِدْقًا، وَإِذَا فَعَلَ فِعْلًا كَانَ صَوَابًا، وَإِذَا أَرَادَ شَيْئًا كَانَ أَوْلَى بِالْإِرَادَةِ مِنْ غَيْرِهِ، وَهَذَا الْوَصْفُ عَلَى الْكَمَالِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ.
فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ: الدَّلَالَةَ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ الْمُنَافِيَةِ لِلشِّرْكِ، وَعَدْلِهُ الْمُنَافِي لِلظُّلْمِ، وَعِزَّتِهِ الْمُنَافِيَةِ لِلْعَجْزِ، وَحِكْمَتِهِ الْمُنَافِيَةِ لِلْجَهْلِ وَالْعَيْبِ، فَفِيهَا الشَّهَادَةُ لَهُ بِالتَّوْحِيدِ، وَالْعَدْلِ، وَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَلِهَذَا كَانَتْ أَعْظَمَ شَهَادَةٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute