وَمُهْتَدٍ وَغَوِيٍّ، وَنَادَتْ عَلَيْهِ الْكُتُبُ وَالرُّسُلُ.
قَوْلُهُ " وَإِنْ لَمْ يَقُومُوا بِحُسْنِ الِاسْتِدْلَالِ " يَعْنِي: هُوَ مُسْتَتِرٌ فِي قُلُوبِ أَهْلِهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُمْ لَا يُحْسِنُ الِاسْتِدْلَالَ عَلَيْهِ تَقْرِيرًا وَإِيْضَاحًا، وَجَوَابًا عَنِ الْمُعَارِضِ، وَدَفْعًا لِشُبَهِ الْمُعَانِدِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُحْسِنُونَ ذَلِكَ، وَهَذَا قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى وُجُودِ التَّوْحِيدِ فِي قُلُوبِهِمْ، فَمَا كُلُّ مَنْ وَجَدَ شَيْئًا وَعَلِمَهُ وَتَيَقَّنَهُ أَحْسَنَ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَيْهِ، وَيُقَرِّرَهُ، وَيَدْفَعَ الشُّبَهَ الْقَادِحَةَ فِيهِ، فَهَذَا لَوْنٌ وَوُجُودُهُ لَوْنٌ، وَلَكِنْ لَابُدَّ - مَعَ ذَلِكَ - مِنْ نَوْعِ اسْتِدْلَالٍ قَامَ عِنْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى شُرُوطِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي يُنَظِّمُهَا أَهْلُ الْكَلَامِ وَغَيْرُهُمْ وَتَرْتِيبِهَا، فَهَذِهِ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي التَّوْحِيدِ - لَا فِي مَعْرِفَتِهِ وَالْعِلْمِ بِهِ، وَلَا فِي الْقِيَامِ بِهِ عَمَلًا وَحَالًا - فَاسْتِدْلَالُ كُلِّ أَحَدٍ بِحَسَبِهِ، وَلَا يُحْصِي أَنْوَاعَ الِاسْتِدْلَالِ وَوُجُوهَهُ وَمَرَاتِبَهُ إِلَّا اللَّهُ، فَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ، وَلِكُلِّ عِلْمٍ صَحِيحٍ وَيَقِينٍ دَلِيلٌ يُوجِبُهُ، وَشَاهِدٌ يَصِحُّ بِهِ، وَقَدْ لَا يُمْكِنُ صَاحِبَهُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ عَجْزًا وَعِيًّا، وَإِنْ عَبَّرَ عَنْهُ فَقَدْ لَا يُمْكِنُهُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِاصْطِلَاحِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَلْفَاظِهِمْ، وَكَثِيرًا مَا يَكُونُ الدَّلِيلُ الَّذِي عُرِفَ بِهِ الْحَقُّ أَصَحَّ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَدِلَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَمُقَدِّمَاتِهَا، وَأَبْعَدَ عَنِ الشُّبَهِ، وَأَقْرَبَ تَحْصِيلًا لِلْمَقْصُودِ، وَإِيصَالًا إِلَى الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ.
بَلْ مَنِ اسْتَقْرَأَ أَحْوَالَ النَّاسِ رَأَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ - أَوْ أَكْثَرَهُمْ - أَعْظَمُ تَوْحِيدًا، وَأَكْثَرُ مَعْرِفَةً، وَأَرْسَخُ إِيمَانًا مِنْ أَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَأَرْبَابِ النَّظَرِ وَالْجِدَالِ، وَيَجِدُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَدِلَّةِ وَالْآيَاتِ الَّتِي يَصِحُّ بِهَا إِيمَانُهُمْ مَا هُوَ أَظْهَرُ وَأَوْضَحُ وَأَصَحُّ مِمَّا عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي نَدَبَ اللَّهُ عِبَادَهُ إِلَى النَّظَرِ فِيهَا، وَالِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى تَوْحِيدِهِ، وَثُبُوتِ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَصِدْقِ رُسُلِهِ هِيَ آيَاتٌ مَشْهُودَةٌ بِالْحِسِّ، مَعْلُومَةٌ بِالْعَقْلِ، مُسْتَقِرَّةٌ فِي الْفِطَرِ، لَا يَحْتَاجُ النَّاظِرُ فِيهَا إِلَى أَوْضَاعِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْجَدَلِ، وَاصْطِلَاحِهِمْ، وَطُرُقِهِمُ الْبَتَّةَ، وَكُلُّ مَنْ لَهُ حِسٌّ سَلِيمٌ، وَعَقْلٌ يُمَيِّزُ بِهِ يَعْرِفُهَا وَيُقِرُّ بِهَا، وَيَنْتَقِلُ مِنَ الْعِلْمِ بِهَا إِلَى الْعِلْمِ بِالْمَدْلُولِ، وَفِي الْقُرْآنِ مَا يَزِيدُ عَلَى عَشَرَاتِ أُلُوفٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَمَنْ لَمْ يَحْفَظِ الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ إِذَا سَمِعَهَا وَفَهِمَهَا وَعَقَلَهَا انْتَقَلَ ذِهْنُهُ مِنْهَا إِلَى الْمَدْلُولِ أَسْرَعَ انْتِقَالٍ وَأَقْرَبَهُ.
وَبِالْجُمْلَةِ: فَمَا كُلُّ مَنْ عَلِمَ شَيْئًا أَمْكَنَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَيْهِ، وَلَا كُلُّ مَنْ أَمْكَنَهُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ يُحْسِنُ تَرْتِيبَ الدَّلِيلِ وَتَقْرِيرَهُ، وَالْجَوَابَ عَنِ الْمُعَارِضِ، وَالشَّوَاهِدُ الَّتِي ذَكَرَهَا: هِيَ الْأَدِلَّةُ، كَالِاسْتِدْلَالِ بِالْمَصْنُوعِ عَلَى الصَّانِعِ، وَالْمَخْلُوقِ عَلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute