وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يَثْبُتُ بِالْعَقْلِ، لَا هَذَا وَلَا هَذَا، بَلْ لَا يَجِبُ بِالْعَقْلِ فِيهَا شَيْءٌ، وَإِنَّمَا الْوُجُوبُ بِالشَّرْعِ، وَلِذَلِكَ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ عَلَى تَرْكِهِ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَشْعَرِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى نَفْيِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ، وَالْقَوْلَانِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةِ.
وَالْحَقُّ: أَنَّ وُجُوبَهُ ثَابِتٌ بِالْعَقْلِ وَالسَّمْعِ، وَالْقُرْآنُ عَلَى هَذَا يَدُلُّ، فَإِنَّهُ يَذْكُرُ الْأَدِلَّةَ وَالْبَرَاهِينَ الْعَقْلِيَّةَ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَيُبَيِّنُ حُسْنَهُ وَقُبْحَ الشِّرْكِ عَقْلًا وَفِطْرَةً، وَيَأْمُرُ بِالتَّوْحِيدِ وَيَنْهَى عَنِ الشِّرْكِ، وَلِهَذَا ضَرَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْأَمْثَالَ، وَهِيَ الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ، وَخَاطَبَ الْعِبَادَ بِذَلِكَ خِطَابَ مَنِ اسْتَقَرَّ فِي عُقُولِهِمْ وَفِطَرِهِمْ حُسْنُ التَّوْحِيدِ وَوُجُوبُهُ، وَقُبْحُ الشِّرْكِ وَذَمُّهُ، وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِالْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: ٢٩] وَقَوْلِهِ {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ - وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: ٧٥ - ٧٦] وَقَوْلِهِ {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: ٧٣] إِلَى أَضْعَافِ ذَلِكَ مِنْ بَرَاهِينِ التَّوْحِيدِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي أَرْشَدَ إِلَيْهَا الْقُرْآنُ وَنَبَّهَ عَلَيْهَا.
وَلَكِنْ هَاهُنَا أَمْرٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْعِقَابَ عَلَى تَرْكِ هَذَا الْوَاجِبِ يَتَأَخَّرُ إِلَى حِينِ وُرُودِ الشَّرْعِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: ١٥] وَقَوْلُهُ {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا} [الملك: ٨] وَقَوْلُهُ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: ٥٩] وَقَوْلُهُ {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: ١٣١]
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute