للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَكِنْ يَقُومُ بِهَا وَقَدْ عَزَلَهَا عَنْ وِلَايَةِ النَّجَاحِ وَالنَّجَاةِ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اعْمَلُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يُنْجِيَهُ عَمَلُهُ» .

وَاحْتَرِزْ بِالْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ مِنَ الْأَسْبَابِ الْبَاطِنَةِ، كَالْإِيمَانِ، وَالتَّصْدِيقِ، وَمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنَّ النَّجَاةَ وَالسَّعَادَةَ مُعَلِّقَةٌ بِهَا، بَلِ التَّوْحِيدُ نَفْسُهُ مِنَ الْأَسْبَابِ، بَلْ هُوَ أَعْظَمُ الْأَسْبَابِ الْبَاطِنَةِ، فَلَا يَجُوزُ إِسْقَاطُهُ.

وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ؛ فَهُوَ غَيْرُ مُخْلِصٍ، فَإِذَا أُرِيدَ بِالْإِسْقَاطِ التَّعْطِيلُ وَالْإِهْمَالُ؛ فَمِنْ أَبْطَلِ الْبَاطِلِ، وَإِنْ أُرِيدَ الْعَزْلُ عَنْ وِلَايَةِ الِاقْتِضَاءِ، وَإِسْنَادُ الْحُكْمِ إِلَى مَشِيئَةِ الرَّبِّ وَحْدَهُ؛ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَإِنْ أُرِيدَ الْأَسْبَابُ الَّتِي لَمْ يُؤْمَرْ بِهَا الْعَبْدُ، فَلَيْسَ إِسْقَاطُهَا مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، وَلَا الْقِيَامُ بِهَا مُبْطِلًا لَهُ وَلَا مُنْقِصًا.

وَبِالْجُمْلَةِ: فَلَيْسَ إِسْقَاطُ الْأَسْبَابِ مِنَ التَّوْحِيدِ، بَلِ الْقِيَامُ بِهَا وَاعْتِبَارُهَا وَإِنْزَالُهَا فِي مَنَازِلِهَا الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ فِيهَا هُوَ مَحْضُ التَّوْحِيدِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَالْقَوْلُ بِإِسْقَاطِ الْأَسْبَابِ هُوَ تَوْحِيدُ الْقَدَرِيَّةِ الْجَبْرِيَّةِ، أَتْبَاعِ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ فِي الْجَبْرِ، فَإِنَّهُ كَانَ غَالِيًا فِيهِ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا بِسَبَبٍ، وَلَا جَعَلَ فِي الْأَسْبَابِ قُوًى وَطَبَائِعَ تُؤَثِّرُ، فَلَيْسَ فِي النَّارِ قُوَّةُ الْإِحْرَاقِ، وَلَا فِي السُّمِّ قُوَّةُ الْإِهْلَاكِ، وَلَا فِي الْمَاءِ وَالْخُبْزِ قُوَّةُ الرِّيِّ وَالتَّغَذِّي بِهِ، وَلَا فِي الْعَيْنِ قُوَّةُ الْإِبْصَارِ، وَلَا فِي الْأُذُنِ وَالْأَنْفِ قُوَّةُ السَّمْعِ وَالشَّمِّ، بَلِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ يُحْدِثُ هَذِهِ الْآثَارَ عِنْدَ مُلَاقَاةِ هَذِهِ الْأَجْسَامِ، لَا بِهَا، فَلَيْسَ الشِّبَعُ بِالْأَكْلِ، وَلَا الرِّيُّ بِالشُّرْبِ، وَلَا الْعِلْمُ بِالِاسْتِدْلَالِ، وَلَا الِانْكِسَارُ بِالْكَسْرِ، وَلَا الْإِزْهَاقُ بِالذَّبْحِ، وَلَا الطَّاعَاتُ وَالتَّوْحِيدُ سَبَبًا لِدُخُولِ الْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ، وَلَا الشِّرْكُ وَالْكَفْرُ وَالْمَعَاصِي سَبَبًا لِدُخُولِ النَّارِ، بَلْ يُدْخِلُ هَؤُلَاءِ الْجَنَّةَ بِمَحْضِ مَشِيئَتِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ وَلَا حِكْمَةٍ أَصْلًا، وَيُدْخِلُ هَؤُلَاءِ النَّارَ بِمَحْضِ مَشِيئَتِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ وَلَا حِكْمَةٍ.

وَلِهَذَا قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: وَهُوَ أَنْ لَا يَشْهَدَ فِي التَّوْحِيدِ دَلِيلًا، وَلَا فِي التَّوَكُّلِ سَبَبًا، وَلَا فِي النَّجَاةِ وَسِيلَةً، بَلْ عِنْدَهُمْ صُدُورُ الْكَائِنَاتِ وَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي عَنْ مَحْضِ الْمَشِيئَةِ الْوَاحِدَةِ الَّتِي رَجَّحَتْ مَثَلًا عَلَى مَثَلٍ بِغَيْرِ مُرَجِّحٍ، فَعَنْهَا يَصْدُرُ كُلُّ حَادِثٍ، وَيَصْدُرُ مَعَ الْحَادِثِ حَادِثٌ آخَرُ مُقْتَرِنًا بِهِ اقْتِرَانًا عَادِيًّا، لَا أَنَّ أَحَدَهُمَا سَبَبُ الْآخَرِ، وَلَا مُرْتَبِطٌ بِهِ، فَأَحَدُهُمَا مُجَرَّدُ عَلَامَةٍ وَأَمَارَةٍ عَلَى وُجُودِ الْآخَرِ، فَإِذَا وَجَدَ أَحَدَ الْمُقْتَرِنَيْنِ وَجَدَ الْآخَرَ مَعَهُ، بِطَرِيقِ الِاقْتِرَانِ الْعَادِيِّ فَقَطْ، لَا بِطْرِيقِ التَّسَبُّبِ وَالِاقْتِضَاءِ، وَهَذَا عِنْدَهُمْ هُوَ نِهَايَةُ التَّوْحِيدِ وَغَايَةُ الْمَعْرِفَةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>