عَدَمَيْنِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنْ ذَاتِهِ إِلَّا الْعَدَمُ، فَعَدَمُهُ بِالذَّاتِ، وَوُجُودُهُ بِإِيجَادِ الْحَقِّ لَهُ، فَيَفْنَى فِي عِلْمِهِ، كَمَا كَانَ فَانِيًا فِي حَالِ عَدَمِهِ، فَإِذَا فَنِيَ فِي عِلْمِهِ ارْتَقَى إِلَى دَرَجَةٍ أُخْرَى فَوْقَ ذَلِكَ، وَهِيَ جَحْدُ السِّوَى وَإِنْكَارُهُ، وَهَذِهِ أَبْلَغُ مِنَ الْأُولَى، لِأَنَّهَا غَيَّبَتْهُ عَنِ السِّوَى، فَقَدْ يَغِيبُ عَنْهُ وَهُوَ غَيْرُ جَاحِدٍ لَهُ، وَهَذِهِ الثَّانِيَةُ جَحْدُهُ وَإِنْكَارُهُ.
وَمِنْ هَاهُنَا دَخَلَ الِاتِّحَادِيُّ، وَقَالَ: الْمُرَادُ جَحْدُ السِّوَى بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَنَّهُ مَا ثَمَّ غَيْرٌ بِوَجْهٍ مَا.
وَحَاشَا شَيْخَ الْإِسْلَامِ مِنْ إِلْحَادِ أَهْلِ الِاتِّحَادِ، وَإِنْ كَانَتْ عِبَارَتُهُ مُوهِمَةً، بَلْ مُفْهِمَةٌ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالْجَحْدِ فِي الشُّهُودِ، لَا فِي الْوُجُودِ، أَيْ يَجْحَدُهُ أَنْ يَكُونَ مَشْهُودًا، فَيَجْحَدَ وُجُودَهُ الشُّهُودِيَّ الْعِلْمِيَّ، لَا وُجُودَهُ الْعَيْنِيَّ الْخَارِجِيَّ، فَهُوَ أوْلًا يَغِيبُ عَنْ وُجُودِهِ الشُّهُودِيِّ الْعِلْمِيِّ، ثُمَّ يُنْكِرُ ثَانِيًا وَجُودَهُ فِي عِلْمِهِ، وَهُوَ اضْمِحْلَالُهُ جَحْدًا، ثُمَّ يَرْتَقِي مِنْ هَذِهِ الدَّرَجَةِ إِلَى دَرَجَةٍ أُخْرَى أَبْلَغَ مِنْهَا، وَهِيَ اضْمِحْلَالُهُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَأَنَّهُ لَا وُجُودَ لَهُ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا وُجُودُهُ قَائِمٌ بِوُجُودِ الْحَقِّ، فَلَوْلَا وُجُودُ الْحَقِّ لَمْ يَكُنْ هُوَ مَوْجُودًا، فَفِي الْحَقِيقَةِ: الْمَوْجُودُ إِنَّمَا هُوَ الْحَقُّ وَحْدَهُ، وَالْكَائِنَاتُ مِنْ أَثَرِ وَجُودِهِ، هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ " إِنَّهَا لَا وُجُودَ لَهَا وَلَا أَثَرَ لَهَا، وَإِنَّهَا مَعْدُومَةٌ وَفَانِيَةٌ وَمُضْمَحِلَّةٌ ".
وَالِاتِّحَادِيُّ يَقُولُ: إِنَّ السَّالِكَ فِي أَوَّلِ سُلُوكِهِ يَرَى أَنَّهُ لَا فَاعِلَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا اللَّهُ، فَهَذَا تَوْحِيدُ الْعِلْمِ، وَلَا يَقْدِرُ فِي طَوْرِهِ الْأَوَّلِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ عَنْ هَذَا إِلَى الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ شُهُودُ عَوْدِ الْأَفْعَالِ إِلَى الصِّفَاتِ، وَالصِّفَاتِ إِلَى الذَّاتِ، فَعَادَ الْأَمْرُ كُلُّهُ إِلَى الذَّاتِ، فَيَجْحَدُ وُجُودَ السِّوَى بِالْكُلِّيَّةِ، فَهَذَا هُوَ الِاضْمِحْلَالُ جَحْدًا، ثُمَّ يَرْتَقِي عَنْ هَذِهِ الدَّرَجَةِ إِلَى رُكُوبِ الْبَحْرِ الَّذِي تَغْرَقُ فِيهِ الْأَفْعَالُ وَالْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ، وَلَا يَبْقَى إِلَّا أَمْرٌ مُطْلَقٌ لَا يَتَقَيَّدُ بِاسْمٍ وَلَا فِعْلٍ وَلَا صِفَةٍ، قَدِ اضْمَحَلَّ فِيهِ كُلُّ مَعْنًى وَقَيْدٍ وَصِفَةٍ وَرَسْمٍ، وَهَذَا عِنْدَهُمْ غَايَةُ السَّفَرِ الْأَوَّلِ، فَحِينَئِذٍ يَأْخُذُ فِي السَّفَرِ الثَّانِي، وَهُوَ الْبَقَاءُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute