للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حُصُولَ النَّجَاةِ بِمُجَرَّدِ الْوَسَائِلِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَسْبَابِ، وَأَمَّا إِلْغَاءُ كَوْنِهَا وَسَائِلَ: فَبَاطِلٌ، يُخَالِفُ الشَّرْعَ وَالْعَقْلَ، وَأَمَّا عَدَمُ شُهُودِهَا وَسَائِلَ، مَعَ اعْتِقَادِ كَوْنِهَا وَسَائِلَ: فَلَيْسَ بِكَمَالٍ، وَشُهُودُهَا وَسَائِلَ - كَمَا جَعَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ - أَكْمَلُ مَشْهَدًا، وَأَصَحُّ طَرِيقَةً، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

وَقَدْ بَيَّنَّا - فِيمَا تَقَدَّمَ - أَنَّ الْكَمَالَ: أَنَّ تَشْهَدَ الْعُبُودِيَّةَ وَقِيَامَكَ بِهَا، وَتَشْهَدَ أَنَّهَا مِنْ عَيْنِ الْمِنَّةِ وَالْفَضْلِ، وَتَشْهَدَ الْمَعْبُودَ، فَلَا تَغِيبُ بِشُهُودِهِ عَنْ شُهُودِ أَمْرِهِ، وَلَا تَغِيبُ بِشُهُودِ أَمْرِهِ عَنْ شُهُودِهِ، وَلَا تَغِيبُ بِشُهُودِهِ وَشُهُودِ أَمْرِهِ عَنْ شُهُودِ فَضْلِهِ وَمِنَّتِهِ وَتَوْفِيقِهِ، وَشُهُودِ فَقْرِكَ وَفَاقَتِكَ، وَأَنَّكَ بِهِ لَا بِكَ، وَقَدْ «خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَهُمْ يَتَذَاكَرُونَ، فَقَالَ: مَا أَجْلَسَكُمْ؟ قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ مَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْنَا، وَهَدَانَا بِكَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: آللَّهِ، مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ؟ قَالُوا: آللَّهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَلِكَ، فَقَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ» وَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ: لَا تَشْهَدُوا فِي التَّوْحِيدِ دَلِيلًا، وَلَا فِي النَّجَاةِ وَسِيلَةً، بَلْ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ مُبَاهَاةِ اللَّهِ بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ: شُهُودُهُمْ سَبَبَ التَّوْحِيدِ، وَوَسِيلَةَ النَّجَاةِ، وَأَنَّهَا مِنْ مَنِّ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران: ١٦٤] فَكَيْفَ يَكُونُ كَمَالُهُمْ فِي أَنْ لَا يَشْهَدُوا الدَّلِيلَ الَّذِي يُزَكِّيهِمْ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيَهْدِيهِمْ؟ وَيُسْقِطُونَهُ مِنَ الشُّهُودِ وَالسَّبَبِيَّةِ؟

قَوْلُهُ: " فَيَكُونُ شَاهِدًا سَبْقَ الْحَقِّ بِعِلْمِهِ وَحُكْمِهِ، وَوَضْعِهِ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا، وَتَعْلِيقِهِ إِيَّاهَا بِأَحَايِينِهَا، وَإِخْفَائِهِ إِيَّاهَا فِي رُسُومِهَا.

لَيْسَ الشُّهُودُ هَاهُنَا مَتَعَلِّقًا بِمُجَرَّدِ أَزَلِيَّةِ الرَّبِّ تَعَالَى، وَتَقَدُّمِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَقَطْ، بَلْ مُتَعَلِّقٌ بِسَبْقِ الْعِلْمِ وَالتَّقْدِيرِ، فَيَرَى الْأَشْيَاءَ بِعَيْنِ سَوَابِقِهَا، وَقَدْ تَقَرَّرَتْ هُنَاكَ فِي عِلْمِ الرَّبِّ وَتَقْدِيرِهِ، فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا هُنَاكَ إِذَا نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهَا هُنَا، فَيَتَجَاوَزُ نَظَرُهُ نَظَرَهُمْ، فَيَغْلِبُ شُهُودُ السَّوَابِقِ عَلَى مُلَاحَظَةِ اللَّوَاحِقِ، فَيَشْهَدُ تَفَرُّدَ الرَّبِّ وَحْدَهُ، حَيْثُ لَا مَوْجُودَ سِوَاهُ، وَقَدْ عَلِمَ الْكَائِنَاتِ وَقَدَّرَ مَقَادِيرَهَا، وَوَقَّتَ مَوَاقِيتَهَا، وَقَرَّرَهَا عَلَى مُقْتَضَى عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَقَدْ سَبَقَ الْعِلْمُ الْمَعْلُومَ، وَالْقَدَرُ الْمَقْدُورَ وَالْإِرَادَةُ الْمُرَادَ، فَيَرَى الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا ثَابِتَةً فِي عِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَحِكْمَتِهِ قَبْلَ وُجُودِ الْعَوَالِمِ، فَأَيُّ وَسِيلَةٍ يَشْهَدُ هُنَاكَ؟ وَأَيُّ

<<  <  ج: ص:  >  >>