فَيُقَالُ: إِمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهَذَا التَّوْحِيدِ: تَوْحِيدَ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ، وَهُوَ مَا قَامَ بِالْعَبْدِ مِنَ التَّوْحِيدِ، لَا يُرِيدُ بِهِ تَوْحِيدَ الرَّبِّ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ مَا قَامَ بِهِ مِنْ صِفَاتِهِ وَكَمَالِهِ، فَإِذَا أَرَادَ بِهِ تَوْحِيدَ الرَّبِّ لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ عِلْمُهُ وَكَلَامُهُ، وَخَبَرُهُ الَّذِي يُخْبِرُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَصِفَاتِهِ، كَقَوْلِهِ {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: ١٨] وَقَوْلِهِ {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه: ١٤] وَقَوْلِهِ {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [الحشر: ٢٢] وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَذَلِكَ هُوَ صِفَةُ الرَّبِّ الْقَائِمَةُ بِهِ، كَمَا يَقُومُ بِهِ سَائِرُ صِفَاتِهِ: مِنْ حَيَاتِهِ، وَعِلْمِهِ، وَقُدْرَتِهِ، وَإِرَادَتِهِ، وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، وَذَلِكَ لَا يُفَارِقُ ذَاتَ الرَّبِّ، وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى غَيْرِهِ، بَلْ صِفَاتُ الْمَخْلُوقِ لَا تُفَارِقُهُ، وَلَا تَنْتَقِلُ إِلَى غَيْرِهِ، فَكَيْفَ صِفَاتُ الْخَالِقِ جَلَّ وَعَلَا؟ وَلَكِنَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ بِآيَاتِهِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ، فَيَعْلَمُ عِبَادُهُ مَا قَامَ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ لِنَفْسِهِ، بِمَا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، فَإِذَا شَهِدَ عَبْدُهُ لَهُ بِمَا شَهِدَ بِهِ لِنَفْسِهِ، قِيلَ: هَذِهِ الشَّهَادَةُ هِيَ شَهَادَةُ الرَّبِّ، بِمَعْنَى: أَنَّهَا مُطَابِقَةٌ لَهَا مُوَافِقَةٌ لَهَا، لَا بِمَعْنَى أَنَّهَا عَيْنُهَا، وَأَنَّ الشَّهَادَتَيْنِ وَاحِدَةٌ بِالْعَيْنِ، فَمَا قَامَ بِقَلْبِ الْعَبْدِ إِلَّا صِفَتُهُ وَكَلَامُهُ وَخَبَرُهُ وَإِرَادَتُهُ، وَهُوَ غَيْرُ مَا قَامَ بِذَاتِ الرَّبِّ مِنْ صِفَتِهِ وَكَلَامِهِ، وَخَبَرِهِ، وَإِنْ طَابَقَهُ وَوَافَقَهُ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ " اخْتَصَّهُ الْحَقُّ لِنَفْسِهِ " أَيْ لَا يُوَحِّدُهُ بِهِ غَيْرُهُ، " وَاسْتَحَقَّهُ لِقَدْرِهِ " أَيِ اسْتَحَقَّهُ بِقَدْرِ كُنْهِهِ الَّذِي لَا يَبْلُغُهُ غَيْرُهُ.
قَوْلُهُ: " وَأَلَاحَ مِنْهُ لَائِحًا إِلَى أَسْرَارِ طَائِفَةٍ مِنْ صَفْوَتِهِ "، أَيْ أَظْهَرَ مِنْهُ شَيْئًا يَسِيرًا، أَسَرَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ قَلِيلَةٍ مِنَ الْخَلْقِ، وَهُمْ أَهْلُ صَفْوَتِهِ.
قَوْلُهُ " أَخْرَسَهُمْ عَنْ نَعْتِهِ " يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ: أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ نَعْتَ الْمَخْلُوقِينَ كَمَا لَا يَقْبَلُ لِسَانُ الْأَخْرَسِ الْكَلَامَ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ نَعْتُهُ غَيْرَ مُمْكِنٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ: أَنَّهُ حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نَعْتِهِ، لِعَجْزِ السَّامِعِ عَنْ فَهْمِهِ، فَيَكُونُ نَعْتُهُ مُمْكِنًا، لَكِنَّ الْحَقَّ أَسْكَتَهُمْ عَنْهُ، غَيْرَةً عَلَيْهِ وَصِيَانَةً لَهُ.
قَوْلُهُ: " وَأَعْجَزَهُمْ عَنْ بَثِّهِ "، أَيْ لَمْ يُقْدِرْهُمْ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْهُ.
فَيُقَالُ: أَفْضَلُ صَفْوَةِ الرَّبِّ تَعَالَى: الْأَنْبِيَاءُ، وَأَفْضَلُهُمْ: الرُّسُلُ، وَأَفْضَلُهُمْ: أُولُو الْعَزْمِ، وَأَفْضَلُهُمْ: الْخَلِيلَانِ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَالَّذِي أَلَاحَهُ اللَّهُ إِلَى أَسْرَارِهِمْ مِنْ ذَلِكَ هُوَ أَكْمَلُ تَوْحِيدٍ عَرَفَهُ الْعِبَادُ، وَلَا أَكْمَلَ مِنْهُ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute