للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَعَاطَاهُ حِينٌ، وَلَا أَقَلَّهُ سَبَبٌ، فَعَلَى مَنْ أَحَلْتُمْ بِهَذَا الْحَقِّ الْمَجْهُولِ الَّذِي لَا سَبِيلَ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ، وَلَا التَّعْبِيِرِ عَنْهُ، وَلَا الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ؟ ! ! وَأَيْنَ قَوْلُهُ: " مَا وَحَّدَ الْوَاحِدَ مِنْ وَاحِدٍ " مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: ١٨] ؟ فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كُلَّهُمْ يُوَحِّدُونَهُ، وَأَنَّ أُولِي الْعِلْمِ يُوَحِّدُونَهُ، وَكَذَلِكَ إِخْبَارُهُ عَنْ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ وَأَتْبَاعِهِمْ أَنَّهُمْ وَحَّدُوهُ، وَلَمْ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نُوحٍ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ، وَعَنْ جَمِيعِ الرُّسُلِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ، بَلْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ أَنَّهَا تُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ تَوْحِيدًا وَمَعْرِفَةً.

فَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: مَا وَحَّدَهُ أَحَدٌ مِنَ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ؟ وَلَا سَبَّحَ بِحَمْدِهِ سَمَاءٌ وَلَا أَرْضٌ وَلَا شَيْءٌ؟ وَأَبْطَلُ الْبَاطِلِ أَنْ يُقَالَ: كُلُّ مَنْ وَحَّدَ اللَّهَ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ جَاحِدٌ لَهُ وَلِتَوْحِيدِهِ، لَا مُوَحِّدَ لَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ؟ وَأَنَّ نَعْتَ جَمِيعِ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ لَهُ إِلْحَادٌ، وَكُلُّ مَنْ نَعَتَهُ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فَهُوَ لَاحِدٌ، فَلَا مَعْنًى صَحِيحٌ، وَلَا لَفْظٌ مَلِيحٌ، بَلِ الْمَعْنَى أَبْطَلُ مِنَ اللَّفْظِ، وَاللَّفْظُ أَقْبَحُ مِنَ الْمَعْنَى!

ثُمَّ يُقَالُ: فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتَهُ - فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ - هَلْ هُوَ تَوْحِيدٌ، وَوَصْفٌ لِلتَّوْحِيدِ، أَمْ لَيْسَ بِتَوْحِيدٍ؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَوْحِيدًا فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ تَوْحِيدًا فَقَدْ وَحَّدْتَ الْوَاحِدَ.

وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ تَوْحِيدُهُ لِنَفْسِهِ هُوَ التَّوْحِيدَ وَمَا عَدَاهُ فَلَيْسَ بِتَوْحِيدٍ فَمَعْلُومٌ أَنَّ تَوْحِيدَهُ لِنَفْسِهِ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ وَأَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ وَهَذَا عِنْدَكَ هُوَ تَوْحِيدُ الْعَامَّةِ، فَأَيْنَ هَذَا التَّوْحِيدُ الَّذِي وَحَّدَ بِهِ نَفْسَهُ وَلَمْ يَنْطِقْ بِهِ لِسَانٌ وَلَمْ تُعَبِّرْ عَنْهُ عِبَارَةٌ وَلَمْ يَقُلْهُ سَبَبٌ؟

فَإِنْ قُلْتَ: هُوَ التَّوْحِيدُ الْقَائِمُ بِهِ فَذَلِكَ هُوَ وَصْفُهُ وَكَلَامُهُ وَعِلْمُهُ بِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ وَلَا صِفَتِهِ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الدَّرَجَةَ الثَّالِثَةَ مِنْ تَوْحِيدِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ كَمَا أَنَّ سَائِرَ صِفَاتِهِ لَا تَدْخُلُ فِي دَرَجَاتِ السُّلُوكِ، فَإِنَّ تِلْكَ الدَّرَجَاتِ هِيَ مَنَازِلُ الْعُبُودِيَّةِ.

وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ الَّذِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى مَذْهَبِ الْمُلْحِدِينَ وَلَا عَلَى مَذْهَبِ الْمُوَحِّدِينَ.

أَمَّا الْمُوَحِّدُونَ فَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الرُّسُلَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَالْمَلَائِكَةَ وَالْمُؤْمِنِينَ يُوَحِّدُونَ اللَّهَ حَقَّ تَوْحِيدِهِ الَّذِي يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْمُلْحِدُونَ فَيَقُولُونَ: مَا ثَمَّ غَيْرٌ فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>