للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَحَّدَ اللَّهَ فَهُوَ جَاحِدٌ لِإِطْلَاقِهِ فَإِنَّهُ يَصِفُهُ فَيَحْصُرُهُ تَحْتَ الْأَوْصَافِ، وَحَصْرُهُ تَحْتَهَا جَحْدٌ لِإِطْلَاقِهِ عَنْ قُيُودِ الصِّفَاتِ وَالنُّعُوتِ، وَلِهَذَا كَانَ تَوْحِيدُ الْوَاصِفِ النَّاعِتِ لَهُ: عَارِيَةً اسْتَعَارَهَا حَتَّى قَامَ لَهَا مِنْ ذَلِكَ وَصْفٌ وَمَوْصُوفٌ وَمُوَحِّدٌ وَمُوَحَّدٌ، وَالْوَحْدَةُ الْمُطْلَقَةُ تُبْطِلُ هَذِهِ الْعَارِيَةَ وَتَرُدُّ الْمُسْتَعَارَ إِلَى الْمَوْجُودِ الْمُطْلَقِ الَّذِي لَا يَتَقَيَّدُ بِوَصْفٍ وَلَا يَتَخَصَّصُ بِنَعْتٍ.

ثُمَّ كَشَفَ الْغِطَاءَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: تَوْحِيدُهُ إِيَّاهُ تَوْحِيدُهُ، أَيْ هُوَ الْمُوَحِّدُ لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، لَا أَنَّ غَيْرَهُ يُوَحِّدُهُ إِذْ لَيْسَ ثَمَّ غَيْرٌ.

وَزَادَ إِيضَاحُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: " وَنَعْتُ مَنْ يَنْعَتُهُ لِاحِدُ "، وَالْإِلْحَادُ: هُوَ الْمَيْلُ عَنِ الصَّوَابِ، وَالنَّعْتُ تَقْيِيدٌ وَتَخْصِيصٌ لِمَنْ لَا يَتَقَيَّدُ وَلَا يَتَخَصَّصُ، فَهُوَ إِلْحَادٌ.

وَأَحْسَنُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ كَلَامُهُ: أَنَّ الْفَنَاءَ فِي شُهُودِهِ الْأَزَلِيَّةِ وَالْحُكْمَ يَمْحُو شُهُودَ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ وَصِفَاتِهِ، فَضْلًا عَنْ شُهُودِ غَيْرِهِ، فَلَا يَشْهَدُ مُوجِدًا فَاعِلًا عَلَى الْحَقِيقَةِ إِلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ، وَفِي هَذَا الشُّهُودِ تَفْنَى الرُّسُومُ كُلُّهَا، فَلَا يَبْقَى هَذَا الشُّهُودُ وَالْفَنَاءُ رَسْمًا الْبَتَّةَ، فَيَمْحُو هَذَا الشُّهُودُ مِنَ الْقَلْبِ كُلَّ مَا سِوَى الْحَقِّ، لَا أَنَّهُ يَمْحَقُهُ مِنَ الْوُجُودِ، وَحِينَئِذٍ فَيَشْهَدُ أَنَّ التَّوْحِيدَ الْحَقِيقِيَّ - غَيْرَ الْمُسْتَعَارِ - هُوَ تَوْحِيدُ الرَّبِّ تَعَالَى لِنَفْسِهِ، وَتَوْحِيدُ غَيْرِهِ لَهُ عَارِيَةٌ مَحْضَةٌ، أَعَارَهُ إِيَّاهَا مَالِكُ الْأَمْرِ كُلِّهِ، وَالْعَوَارِي مَرْدُودَةٌ إِلَى مَنْ تُرَدُّ إِلَيْهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا، {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس: ٣٠] فَالْوَاحِدُ الْقَهَّارُ - سُبْحَانَهُ - أَبْطَلَ تِلْكَ الْعَارِيَةَ: أَنْ تَكُونَ مِلْكًا لِلْمُعَارِ، كَمَا يُبَيِّنُ الْمُعِيرُ لِلْمُسْتَعِيرِ إِذَا اسْتَرَدَّ الْعَيْنَ الْمُعَارَةَ - وَقَدْ ظَنَّ الْمُسْتَعِيرُ أَنَّ الْمُعَارَ مِلْكُهُ -: أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَأَنَّهُ عَارِيَةٌ مَحْضَةٌ فِي يَدِهِ، وَالْمُعِيرُ - إِنْ أَبْطَلَ ظَنَّ الْمُسْتَعِيرِ مِنَ الْعَارِيَةِ - لَمْ يَبْطُلْ أَصْلُ الْعَارِيَةِ، وَلِهَذَا صَرَّحَ بِإِثْبَاتِهَا فِي أَوَّلِ الْبَيْتِ، وَإِنَّمَا ضَاقَ بِهِ الْوَزْنُ عَنْ تَمَامِ الْمَعْنَى وَإِيْضَاحِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى حَقٌّ، وَهُوَ أَوْلَى بِهَذَا الْإِمَامِ الْعَظِيمِ الْقَدْرِ مِمَّا يَظُنُّهُ بِهِ طَائِفَةُ الِاتِّحَادِيَّةِ وَالْحُلُولِيَّةِ وَإِنْ كَانَتْ كَلِمَاتُهُ الْمُجْمَلَةُ شُبْهَةً لَهُمْ، فَسُنَّتُهُ الْمُفَصَّلَةُ مُبْطِلَةٌ لِظَنِّهِمْ.

وَلِكَلَامِهِ مَحْمَلٌ آخَرُ أَيْضًا، وَهُوَ: أَنَّهُ مَا وَحَدَّ اللَّهَ حَقَّ تَوْحِيدِهِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُ وَيَسْتَحِقُّهُ لِذَاتِهِ سِوَاهُ، كَمَا قَالَ أَعْظَمُ النَّاسِ تَوْحِيدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» وَفِي مِثْلِ هَذَا يَصْلُحُ النَّفْيُ الْعَامُّ، كَمَا يُقَالُ: مَا عَرَفَ اللَّهَ إِلَّا

<<  <  ج: ص:  >  >>