قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: وَسَرَائِرُ حَقِيقَةِ التَّوْبَةِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: تَمْيِيزُ التَّقِيَّةِ مِنَ الْعِزَّةِ، وَنِسْيَانُ الْجِنَايَةِ، وَالتَّوْبَةُ مِنَ التَّوْبَةِ، لِأَنَّ التَّائِبَ دَاخِلٌ فِي الْجَمِيعِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: ٣١] فَأَمَرَ التَّائِبَ بِالتَّوْبَةِ.
تَمْيِيزُ التَّقِيَّةِ مِنَ الْعِزَّةِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّوْبَةِ تَقْوَى اللَّهِ، وَهُوَ خَوْفُهُ وَخَشْيَتُهُ، وَالْقِيَامُ بِأَمْرِهِ، وَاجْتِنَابُ نَهْيِهِ، فَيَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، يَرْجُو ثَوَابَ اللَّهِ، وَيَتْرُكُ مَعْصِيَةَ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، يَخَافُ عِقَابَ اللَّهِ، لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ عِزَّ الطَّاعَةِ، فَإِنَّ لِلطَّاعَةِ وَلِلتَّوْبَةِ عِزًّا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَلَا يَكُونُ مَقْصُودُهُ الْعِزَّةَ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا تَحْصُلُ لَهُ بِالطَّاعَةِ وَالتَّوْبَةِ، فَمَنْ تَابَ لِأَجْلِ الْعِزَّةِ فَتَوْبَتُهُ مَدْخُولَةٌ، وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ " أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ: قُلْ لِفُلَانٍ الزَّاهِدِ: أَمَّا زُهْدُكَ فِي الدُّنْيَا فَقَدْ تَعَجَّلْتَ بِهِ الرَّاحَةَ، وَأَمَّا انْقِطَاعُكَ إِلَيَّ فَقَدِ اكْتَسَبْتَ بِهِ الْعِزَّةَ، وَلَكِنْ مَا عَمِلْتَ فِيمَا لِي عَلَيْكَ؟ قَالَ: يَا رَبِّ، وَمَا لَكَ عَلَيَّ بَعْدَ هَذَا؟ قَالَ: هَلْ وَالَيْتَ فِيَّ وَلِيًّا، أَوْ عَادَيْتَ فِيَّ عَدُوًّا؟ ".
يَعْنِي أَنَّ الرَّاحَةَ وَالْعِزَّ حَظُّكَ، وَقَدْ نُلْتَهُمَا بِالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ، وَلَكِنْ أَيْنَ الْقِيَامُ بِحَقِّي، وَهُوَ الْمُوَالَاةُ فِيَّ وَالْمُعَادَاةُ فِيَّ؟ .
فَالشَّأْنُ فِي التَّفْرِيقِ فِي الْأَوَامِرِ بَيْنَ حَظِّكَ وَحَقِّ رَبِّكَ عِلْمًا وَحَالًا.
وَكَثِيرٌ مِنَ الصَّادِقِينَ قَدْ يَلْتَبِسُ عَلَيْهِمْ حَالُ نُفُوسِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَمِيزُهُ إِلَّا أُولُو الْبَصَائِرِ مِنْهُمْ، وَهُمْ فِي الصَّادِقِينَ كَالصَّادِقِينَ فِي النَّاسِ.
وَأَمَّا نِسْيَانُ الْجِنَايَةِ: فَهَذَا مَوْضِعُ تَفْصِيلٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَرْبَابُ الطَّرِيقِ.
فَمِنْهُمْ: مَنْ رَأَى الِاشْتِغَالَ عَنْ ذِكْرِ الذَّنْبِ وَالْإِعْرَاضَ عَنْهُ صَفْحًا، فَصَفَاءُ الْوَقْتِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى بِالتَّائِبِ وَأَنْفَعُ لَهُ، وَلِهَذَا قِيلَ: ذِكْرُ الْجَفَا فِي وَقْتِ الصَّفَا جَفَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَنْسَى ذَنْبَهُ، بَلْ لَا يَزَالُ جَاعِلًا لَهُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ يُلَاحِظُهُ كُلَّ وَقْتٍ، فَيُحْدِثُ لَهُ ذَلِكَ انْكِسَارًا وَذُلًّا وَخُضُوعًا، أَنْفَعَ لَهُ مِنْ جَمْعِيَّتِهِ وَصَفَاءِ وَقْتِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute