للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَلَى أَنَّ لَهُ مَحْمَلًا آخَرَ مَبْنِيًّا عَلَى أُصُولٍ فَاسِدَةٍ، وَهِيَ أَنَّ إِرَادَةَ الرَّبِّ تَعَالَى هِيَ عَيْنُ مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ، فَكُلُّ مَا شَاءَهُ فَقَدْ أَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ، وَكُلُّ مَا لَمْ يَشَأْهُ فَهُوَ مَسْخُوطٌ لَهُ مَبْغُوضٌ، فَالْمَبْغُوضُ الْمَسْخُوطُ هُوَ مَا لَمْ يَشَأْهُ، وَالْمَحْبُوبُ الْمَرْضِيُّ هُوَ مَا شَاءَهُ.

هَذَا أَصْلُ عَقِيدَةِ الْقَدَرِيَّةِ الْجَبْرِيَّةِ، الْمُنْكِرِينَ لِلْحُكْمِ وَالتَّعْلِيلِ وَالْأَسْبَابِ، وَتَحْسِينِ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحِهِ، وَأَنَّ الْأَفْعَالَ كُلَّهَا سَوَاءٌ، لَا يَخْتَصُّ بَعْضُهَا بِمَا صَارَ حَسَنًا لِأَجْلِهِ، وَبَعْضُهَا بِمَا صَارَ قَبِيحًا لِأَجْلِهِ، وَيَجُوزُ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَأْمُرَ بِمَا نُهِيَ عَنْهُ، وَيَنْهَى عَمَّا أُمِرَ بِهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مُنَاقِضًا لِلْحِكْمَةِ.

إِذِ الْحِكْمَةُ تَرْجِعُ عِنْدَهُمْ إِلَى مُطَابَقَةِ الْعِلْمِ الْأَزَلِيِّ لِمَعْلُومِهِ، وَالْإِرَادَةِ الْأَزَلِيَّةِ لِمُرَادِهَا، وَالْقُدْرَةِ لِمَقْدُورِهَا، فَإِذَا الْأَفْعَالُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ مُسْتَوِيَةٌ، لَا تُوصَفُ بِحُسْنٍ وَلَا قُبْحٍ، فَإِذَا تَعَلَّقَ بِهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ صَارَتْ حِينَئِذٍ حَسَنَةً وَقَبِيحَةً وَلَيْسَ حُسْنُهَا وَقُبْحُهَا أَمْرًا زَائِدًا عَلَى كَوْنِهَا مَأْمُورًا بِهَا وَمَنْهِيًّا عَنْهَا، فَعَلَى هَذَا إِذَا صَعِدَ الْعَبْدُ مِنْ تَفْرِقَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إِلَى جَمْعِ الْمَشِيئَةِ لَمْ يَسْتَحْسِنْ حَسَنَةً، وَلَمْ يَسْتَقْبِحْ قَبِيحَةً، فَإِذَا نَزَلَ فَرْقُ الْأَمْرِ صَحَّ لَهُ الِاسْتِحْسَانُ وَالِاسْتِقْبَاحُ.

فَهَذَا مَحْمَلٌ ثَانٍ لِكَلَامِهِ.

وَلَهُ مَحْمَلٌ ثَالِثٌ - هُوَ أَبْعَدُ النَّاسِ مِنْهُ، وَلَكِنْ قَدْ حُمِلَ عَلَيْهِ - وَهُوَ أَنَّ السَّالِكَ مَا دَامَ مَحْجُوبًا عَنْ شُهُودِ الْحَقِيقَةِ بِشُهُودِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، رَأَى الْأَفْعَالَ بِعَيْنِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، فَرَأَى مِنْهَا الطَّاعَةَ وَالْمَعْصِيَةَ، فَإِذَا تَرَقَّى إِلَى شُهُودِ الْحَقِيقَةِ الْأُولَى، وَهِيَ الْحَقِيقَةُ الْكَوْنِيَّةُ، وَرَأَى شُمُولَ الْحُكْمِ الْكَوْنِيِّ لِلْكَائِنَاتِ وَإِحَاطَتَهُ بِهَا، وَعَدَمَ خُرُوجِ ذَرَّةٍ مِنْهَا عَنْهُ، زَالَ عَنْهُ اسْتِقْبَاحُ شَيْءٍ مِنَ الْأَفْعَالِ، وَشَهِدَهَا كُلَّهَا طَاعَاتٍ لِلْأَقْدَارِ وَالْمَشِيئَةِ، وَفِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ يَقُولُ: إِنْ كُنْتَ عَصَيْتَ الْأَمْرَ، فَقَدْ أَطَعْتَ الْإِرَادَةَ، وَيَقُولُ:

<<  <  ج: ص:  >  >>