للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سَوَاءً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَأَنَّهَا غَيْرُ مُنْقَسِمَةٍ فِي ذَوَاتِهَا إِلَى حَسَنٍ وَقَبِيحٍ، وَلَا يُمَيِّزُ لِلْفِعْلِ عِنْدَهُمْ مَنْشَأُ حُسْنٍ وَلَا قُبْحٍ، وَلَا مَصْلَحَةٍ وَلَا مَفْسَدَةٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ السُّجُودِ لِلشَّيْطَانِ، وَالسُّجُودِ لِلرَّحْمَنِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَا بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، وَلَا بَيْنَ السِّفَاحِ وَالنِّكَاحِ، إِلَّا أَنَّ الشَّارِعَ حَرَّمَ هَذَا وَأَوْجَبَ هَذَا، فَمَعْنَى حُسْنِهِ كَوْنُهُ مَأْمُورًا بِهِ، لَا أَنَّهُ مَنْشَأُ مَصْلَحَةٍ، وَمَعْنَى قُبْحِهِ كَوْنُهُ مَنْهِيًّا عَنْهُ، لَا أَنَّهُ مَنْشَأُ مَفْسَدَةٍ، وَلَا فِيهِ صِفَةٌ اقْتَضَتْ قُبْحَهُ، وَمَعْنَى حُسْنِهِ أَنَّ الشَّارِعَ أَمَرَ بِهِ، لَا أَنَّهُ مَنْشَأُ مَصْلَحَةٍ، وَلَا فِيهِ صِفَةٌ اقْتَضَتْ حُسْنَهُ.

وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَ هَذَا الْمَذْهَبِ مِنْ سِتِّينَ وَجْهًا فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى تُحْفَةَ النَّازِلِينَ بِجِوَارِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَشْبَعْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُنَاكَ، وَذَكَرْنَا جَمِيعَ مَا احْتَجَّ بِهِ أَرْبَابُ هَذَا الْمَذْهَبِ، وَبَيَّنَّا بُطْلَانَهُ.

فَإِنَّ هَذَا الْمَذْهَبَ - بَعْدَ تَصَوُّرِهِ، وَتَصَوُّرِ لَوَازِمِهِ - يَجْزِمُ الْعَقْلُ بِبُطْلَانِهِ، وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى فَسَادِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَالْفِطْرَةُ أَيْضًا وَصَرِيحُ الْعَقْلِ.

فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَطَرَ عِبَادَهُ عَلَى اسْتِحْسَانِ الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ، وَالْعِفَّةِ وَالْإِحْسَانِ، وَمُقَابَلَةِ النِّعَمِ بِالشُّكْرِ، وَفَطَرَهُمْ عَلَى اسْتِقْبَاحِ أَضْدَادِهَا، وَنِسْبَةُ هَذَا إِلَى فِطَرِهِمْ وَعُقُولِهِمْ كَنِسْبَةِ الْحُلْوِ وَالْحَامِضِ إِلَى أَذْوَاقِهِمْ، وَكَنِسْبَةِ رَائِحَةِ الْمِسْكِ وَرَائِحَةِ النَّتْنِ إِلَى مَشَامِّهِمْ، وَكَنِسْبَةِ الصَّوْتِ اللَّذِيذِ وَضِدِّهِ إِلَى أَسْمَاعِهِمْ، وَكَذَلِكَ كَلُّ مَا يُدْرِكُونَهُ بِمَشَاعِرِهِمُ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ طَيِّبِهِ وَخَبِيثِهِ، وَنَافِعِهِ وَضَارِّهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>