للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

طَاعَاتِهِ، وَتَصْرِيفِ الْجَوَارِحِ فِي مَرْضَاتِهِ، كَمَا أَنَّكُمْ - بِفَنَائِكُمْ وَاسْتِغْرَاقِكُمْ فِي شُهُودِ الْحَقِيقَةِ وَحَضْرَةِ الرُّبُوبِيَّةِ - فِي شُغْلٍ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ، فَكَيْفَ كُنْتُمْ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنَّا، وَنَحْنُ فِي حُقُوقِهِ وَمُرَادِهِ مِنَّا، وَأَنْتُمْ فِي حُظُوظِكُمْ وَمُرَادِكُمْ مِنْهُ؟

قَالُوا: وَقَدْ ضُرِبَ لَنَا وَلَكُمْ مَثَلٌ مُطَابِقٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ بِمَلِكٍ ادَّعَى مَحَبَّتَهُ مَمْلُوكَانِ مِنْ مَمَالِيكِهِ، فَاسْتَحْضَرَهُمَا وَسَأَلَهُمَا عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَا: أَنْتَ أَحَبُّ شَيْءٍ إِلَيْنَا، وَلَا نُؤْثِرُ عَلَيْكَ غَيْرَكَ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتُمَا صَادِقَيْنِ فَاذْهَبَا إِلَى سَائِرِ مَمَالِيكِي وَعَرِّفَاهُمْ بِحُقُوقِي عَلَيْهِمْ، وَأَخْبِرَاهُمْ بِمَا يُرْضِينِي عَنْهُمْ، وَيُسْخِطُنِي عَلَيْهِمْ، وَابْذُلَا قُوَاكُمَا فِي تَخْلِيصِهِمْ مِنْ مَسَاخِطِي، وَنَفِّذَا فِيهِمْ أَوَامِرِي، وَاصْبِرَا عَلَى أَذَاهُمْ، وَعُودَا مَرِيضَهُمْ، وَشَيِّعَا مَيِّتَهُمْ، وَأَعِينَا ضَعِيفَهُمْ بِقُوَاكُمَا، وَأَمْوَالِكُمَا وَجَاهِكُمَا، ثُمَّ اذْهَبَا إِلَى بِلَادِ أَعْدَائِي بِهَذِهِ الْمُلَطِّفَاتِ وَخَالِطُوهُمْ، وَادْعُوهُمْ إِلَى مُوَالَاتِي، وَاشْتَغِلَا بِهِمْ، وَلَا تَخَافُوهُمْ، فَعِنْدَهُمْ مِنْ جُنْدِي وَأَوْلِيَائِي مَنْ يَكْفِيكُمَا شَرَّهُمْ.

فَأَمَّا أَحَدُ الْمَمْلُوكَيْنِ فَقَامَ مُبَادِرًا إِلَى امْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَبَعُدَ عَنْ حَضْرَتِهِ فِي طَلَبِ مَرْضَاتِهِ.

وَأَمَّا الْآخَرُ، فَقَالَ لَهُ: لَقَدْ غَلَبَ عَلَى قَلْبِي مِنْ مَحَبَّتِكَ، وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي مُشَاهَدَةِ حَضْرَتِكَ وَجِمَالِكَ مَا لَا أَقْدِرُ مَعَهُ عَلَى مُفَارَقَةِ حَضْرَتِكَ وَمُشَاهَدَتِكَ.

فَقَالَ لَهُ: إِنَّ رِضَائِي فِي أَنْ تَذْهَبَ مَعَ صَاحِبِكَ، فَتَفْعَلَ كَمَا فَعَلَ، وَإِنْ بَعُدْتَ عَنْ مُشَاهَدَتِي.

فَقَالَ: لَا أُوثِرُ عَلَى مُشَاهَدَتِكَ وَالِاسْتِغْرَاقِ فِيكَ شَيْئًا.

فَأَيُّ الْمَمْلُوكَيْنِ أَحَبُّ إِلَى هَذَا الْمَلِكِ، وَأَحْظَى عِنْدَهُ، وَأَخَصُّ بِهِ، وَأَقْرَبُ إِلَيْهِ؟ أَهَذَا الَّذِي آثَرَ حَظَّهُ وَمُرَادَهُ وَمَا فِيهِ لَذَّتُهُ عَلَى مُرَادِ الْمَلِكِ وَأَمْرِهِ وَرِضَاهُ؟ أَمْ ذَلِكَ الَّذِي ذَهَبَ فِي تَنْفِيذِ أَوَامِرِهِ، وَفَرَّغَ لَهَا قُوَاهُ وَجَوَارِحَهُ، وَتَفَرَّقَ فِيهَا فِي كُلِّ وَجْهٍ؟ فَمَا أَوْلَاهُ أَنْ يَجْمَعَهُ أُسْتَاذَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ قَضَاءِ أَوَامِرِهِ وَفَرَاغِهِ مِنْهَا، وَيَجْعَلَهُ مِنْ خَاصَّتِهِ وَأَهْلِ قُرْبِهِ! وَمَا أَوْلَى صَاحِبَهُ بِأَنْ يُبْعِدَهُ عَنْ قُرْبِهِ، وَيَحْجُبَهُ عَنْ مُشَاهَدَتِهِ، وَيُفَرِّقَهُ عَنْ جَمْعِيَّتِهِ عَلَيْهِ، وَيُبَدِّلَهُ بِالتَّفْرِقَةِ الَّتِي هَرَبَ مِنْهَا - فِي تَفْرِقَةِ أَمْرِهِ - تَفْرِقَةً فِي هَوَاهُ وَمُرَادِهِ بِطَبْعِهِ وَبِنَفْسِهِ.

فَلْيَتَأَمَّلِ اللَّبِيبُ هَذَا حَقَّ التَّأَمُّلِ، وَلْيَفْتَحْ عَيْنَ بَصِيرَتِهِ، وَيَسِيرُ بِقَلْبِهِ، فَيَنْظُرَ فِي مَقَامَاتِ الْعَبِيدِ وَأَحْوَالِهِمْ وَهِمَمِهِمْ، وَمَنْ هُوَ أَوْلَى بِالْعُبُودِيَّةِ، وَمَنْ هُوَ الْبَعِيدُ مِنْهَا.

وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ الِاسْتِغْنَاءَ عَنِ اللَّهِ وَطَاعَاتِهِ، وَتَوَثَّبَ عَلَيْهِ، وَأَوْرَثَتْهُ الطَّاعَاتُ

<<  <  ج: ص:  >  >>