دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً» .
فَصْلٌ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ فِي الْإِرَادَةِ وَالطَّلَبِ نَظِيرُ طَرِيقَةِ التَّجَهُّمِ فِي الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ، تِلْكَ تَعْطِيلٌ لِلصِّفَاتِ وَالتَّوْحِيدِ، وَهَذِهِ تَعْطِيلٌ لِلْأَمْرِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَانْظُرْ إِلَى هَذَا النَّسَبِ وَالْإِخَاءِ الَّذِي بَيْنَهُمَا، كَيْفَ شُرِكَ بَيْنَهُمَا فِي اللَّفْظِ، كَمَا شُرِكَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى؟ فَتِلْكَ طَرِيقَةُ النَّفْيِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْفَنَاءِ، تِلْكَ نَفْيٌ لِصِفَاتِ الْمَعْبُودِ، وَهَذِهِ فَنَاءٌ عَنْ عُبُودِيَّتِهِ.
وَأَمَّا نَفْيُ خَوَاصِّ الْعَبِيدِ وَفَنَاؤُهُمْ فَأَمْرٌ وَرَاءَ نَفْيِ أُولَئِكَ وَفَنَائِهِمْ، لِأَنَّ نَفْيَهُمْ لِصِفَاتِ النَّقَائِصِ، وَمَا يُضَادُّ أَوْصَافَ الْكَمَالِ، وَفِنَاءَهُمْ عَنْ إِرَادَةِ غَيْرِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ، فَفَنَاؤُهُمْ عَنْ كُلِّ مَا يُخَالِفُ أَمْرَهُ وَمَحَابَّهُ، وَنَفْيُهُمْ لِكُلِّ مَا يُضَادُّ كَمَالَهُ وَجَلَالَهُ، وَمَنْ لَهُ فُرْقَانٌ فَهُوَ يَعْرِفُ هَذَا وَهَذَا، وَغَيْرُهُ لَا اعْتِبَارَ بِهِ.
وَصَاحِبُ الْمَنَازِلِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ شَدِيدَ الْإِثْبَاتِ لِلْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، مُضَادًّا لِلْجَهْمِيَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَهُ كِتَابُ الْفَارُوقِ اسْتَوْعَبَ فِيهِ أَحَادِيثَ الصِّفَاتَ وَآثَارَهَا، وَلَمْ يُسْبَقْ إِلَى مِثْلِهِ، وَكِتَابُ ذَمِّ الْكَلَامِ وَأَهْلِهِ طَرِيقَتُهُ فِيهِ أَحْسَنُ طَرِيقَةٍ، وَكِتَابٌ لَطِيفٌ فِي أُصُولِ الدِّينِ، يَسْلُكُ فِيهِ طَرِيقَةَ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ وَيُقَرِّرُهَا، وَلَهُ مَعَ الْجَهْمِيَّةِ الْمَقَامَاتُ الْمَشْهُودَةُ، وَسَعَوْا بِقَتْلِهِ إِلَى السُّلْطَانِ مِرَارًا عَدِيدَةً، وَاللَّهُ يَعْصِمُهُ مِنْهُمْ، وَرَمَوْهُ بِالتَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ، عَلَى عَادَةِ بَهْتِ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ، الَّذِينَ لَمْ يَتَحَيَّزُوا إِلَى مَقَالَةِ غَيْرِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.
وَلَكِنَّهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَتْ طَرِيقَتُهُ فِي السُّلُوكِ مُضَادَّةً لِطَرِيقَتِهِ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، فَإِنَّهُ لَا يُقَدِّمُ عَلَى الْفَنَاءِ شَيْئًا، وَيَرَاهُ الْغَايَةَ الَّتِي يُشَمِّرُ إِلَيْهَا السَّالِكُونَ، وَالْعِلْمَ الَّذِي يَؤُمُّهُ السَّائِرُونَ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ ذَوْقُ الْفَنَاءِ وَشُهُودُ الْجَمْعِ، وَعَظُمَ مَوْقِعُهُ عِنْدَهُ، وَاتَّسَعَتْ إِشَارَاتُهُ إِلَيْهِ، وَتَنَوَّعَتْ بِهِ الطُّرُقُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَيْهِ، عِلْمًا وَحَالًا وَذَوْقًا، فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ تَعْطِيلًا مِنَ الْعُبُودِيَّةِ، بَادِيًا عَلَى صَفَحَاتِ كَلَامِهِ. وِزَانَ تَعْطِيلِ الْجَهْمِيَّةِ لِمَا اقْتَضَتْهُ أُصُولُهُمْ مِنْ نَفْيِ الصِّفَاتِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute