وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ فِيهَا مَعْنَى الْمُقَارَبَةِ وَالْإِعْتَابِ بِالْفِعْلِ حِينًا بَعْدَ حِينٍ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: أَلَمَّ بِكَذَا، إِذَا قَارَبَهُ وَلَمْ يَغْشَهُ، وَمِنْ هَذَا سُمِّيَتِ الْقُبْلَةُ وَالْغَمْزَةُ لَمَمًا، لِأَنَّهَا تُلِمُّ بِمَا بَعْدَهَا، وَيُقَالُ: فُلَانٌ لَا يَزُورُنَا إِلَّا لِمَامًا، أَيْ حِينًا بَعْدَ حِينٍ، فَمَعْنَى اللَّفْظَةِ ثَابِتٌ فِي الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ فَسَّرَ الصَّحَابَةُ بِهِمَا الْآيَةَ، وَلَيْسَ مَعْنَى الْآيَةِ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ فَإِنَّهُمْ لَا يَجْتَنِبُونَهُ، فَإِنَّ هَذَا يَكُونُ ثَنَاءً عَلَيْهِمْ بِتَرْكِ اجْتِنَابِ اللَّمَمِ، وَهَذَا مُحَالٌ، وَإِنَّمَا هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مَضْمُونِ الْكَلَامِ وَمَعْنَاهُ، فَإِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ فِي تَقْسِيمِ النَّاسِ إِلَى مُحْسِنٍ وَمُسِيءٍ، وَأَنَّ اللَّهَ يَجْزِي هَذَا بِإِسَاءَتِهِ وَهَذَا بِإِحْسَانِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُحْسِنِينَ وَوَصْفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ، وَمَضْمُونُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُحْسِنًا مَجْزِيًّا بِإِحْسَانِهِ، نَاجِيًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، إِلَّا مَنِ اجْتَنَبَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ، فَحَسُنَ حِينَئِذٍ اسْتِثْنَاءُ اللَّمَمِ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْكَبَائِرِ، فَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِي جِنْسِ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ.
وَضَابِطُ الِانْقِطَاعِ أَنْ يَكُونَ لَهُ دُخُولٌ فِي جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي نَفْسِهِ، وَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ لَفْظُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا} [مريم: ٦٢] فَإِنَّ السَّلَامَ دَاخِلٌ فِي الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ جِنْسُ اللَّغْوِ وَالسَّلَامِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} [النبأ: ٢٤] فَإِنَّ الْحَمِيمَ وَالْغَسَّاقَ دَاخِلٌ فِي جِنْسِ الذَّوْقِ الْمُنْقَسِمِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ فِي الْأَوَّلِ: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا شَيْئًا إِلَّا سَلَامًا، وَفِي الثَّانِي: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا شَيْئًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا، وَنَصَّ عَلَى فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْجِنْسِ تَصْرِيحًا، لِيَكُونَ نَفْيُهُ بِطَرِيقِ التَّصْرِيحِ وَالتَّنْصِيصِ، لَا بِطْرِيقِ الْعُمُومِ الَّذِي يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ تَخْصِيصُ هَذَا الْفَرْدِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: ١٥٧] فَإِنَّ الظَّنَّ دَاخِلٌ فِي الشُّعُورِ الَّذِي هُوَ جِنْسُ الْعِلْمِ وَالظَّنِّ.
وَأَدَقُّ مِنْ هَذَا دُخُولُ الِانْقِطَاعِ فِيمَا يُفْهِمُهُ الْكَلَامُ بِلَازِمِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: ٢٢] إِذْ مَفْهُومُ هَذَا أَنَّ نِكَاحَ مَنْكُوحَاتِ الْآبَاءِ سَبَبٌ لِلْعُقُوبَةِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ مِنْهُ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، فَإِنَّهُ عَفْوٌ، وَكَذَلِكَ {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: ٢٣] وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مَا كَانَ فِي شَرْعِ مَنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute