للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَرَقَّهَا وَأَصْفَاهَا، وَأَشَدَّهَا وَأَلْيَنَهَا مَنِ اتَّخَذَهُ وَحْدَهُ إِلَهًا وَمَعْبُودًا، فَكَانَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَأَخْوَفَ عِنْدَهُ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَأَرْجَى لَهُ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، فَتَتَقَدَّمُ مَحَبَّتُهُ فِي قَلْبِهِ جَمِيعَ الْمَحَابِّ، فَتَنْسَاقُ الْمَحَابُّ تَبَعًا لَهَا كَمَا يَنْسَاقُ الْجَيْشُ تَبَعًا لِلسُّلْطَانِ، وَيَتَقَدَّمُ خَوْفُهُ فِي قَلْبِهِ جَمِيعَ الْمُخَوِّفَاتِ، فَتَنْسَاقُ الْمَخَاوِفُ كُلُّهَا تَبَعًا لِخَوْفِهِ، وَيَتَقَدَّمُ رَجَاؤُهُ فِي قَلْبِهِ جَمِيعَ الرَّجَاءِ، فَيَنْسَاقُ كُلُّ رَجَاءٍ تَبَعًا لِرَجَائِهِ.

فَهَذَا عَلَامَةُ تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ فِي هَذَا الْقَلْبِ، وَالْبَابُ الَّذِي دَخَلَ إِلَيْهِ مِنْهُ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، أَيْ بَابُ تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ هُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ.

فَإِنَّ أَوَّلَ مَا يَتَعَلَّقُ الْقَلْبُ يَتَعَلَّقُ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، ثُمَّ يَرْتَقِي إِلَى تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ، كَمَا يَدْعُو اللَّهُ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ فِي كِتَابِهِ بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّوْحِيدِ إِلَى النَّوْعِ الْآخَرِ، وَيَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِهِ، وَيُقَرِّرُهُمْ بِهِ، ثُمَّ يُخْبِرُ أَنَّهُمْ يَنْقُضُونَهُ بِشِرْكِهِمْ بِهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ.

وَفِي هَذَا الْمَشْهَدِ يَتَحَقَّقُ لَهُ مَقَامُ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: ٥] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف: ٨٧] أَيْ فَأَيْنَ يُصْرَفُونَ عَنْ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَعَنْ عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَهُمْ يَشْهَدُونَ أَنَّهُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ، وَلَا خَالِقَ سِوَاهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون: ٨٤ - ٨٥] فَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ هُوَ وَحْدَهُ مَالِكَ الْأَرْضِ وَمَنْ فِيهَا، وَخَالِقَهُمْ وَرَبَّهُمْ وَمَلِيكَهُمْ، فَهُوَ وَحْدَهُ إِلَهُهُمْ وَمَعْبُودُهُمْ، فَكَمَا لَا رَبَّ لَهُمْ غَيْرَهُ، فَهَكَذَا لَا إِلَهَ لَهُمْ سِوَاهُ {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ - قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون: ٨٦ - ٨٨] الْآيَاتِ، وَهَكَذَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ - أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل: ٥٩ - ٦٠] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ.

يَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ مَنْ فَعَلَ لَهُمْ هَذَا وَحْدَهُ فَهُوَ الْإِلَهُ لَهُمْ وَحْدَهُ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ رَبٌّ فَعَلَ هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ تَعْبُدُوهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ رَبٌّ فَعَلَ هَذَا فَكَيْفَ تَجْعَلُونَ مَعَهُ إِلَهًا آخَرَ؟

<<  <  ج: ص:  >  >>