وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: لَا طَرِيقَ أَقْرَبُ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ، وَلَا حِجَابَ أَغْلَظُ مِنَ الدَّعْوَى، وَلَا يَنْفَعُ مَعَ الْإِعْجَابِ وَالْكِبْرِ عَمَلٌ وَاجْتِهَادٌ، وَلَا يَضُرُّ مَعَ الذُّلِّ وَالِافْتِقَارِ بَطَالَةٌ، يَعْنِي بَعْدَ فِعْلِ الْفَرَائِضِ.
وَالْقَصْدُ: أَنَّ هَذِهِ الذِّلَّةَ وَالْكَسْرَةَ الْخَاصَّةَ تُدْخِلُهُ عَلَى اللَّهِ، وَتَرْمِيهِ عَلَى طَرِيقِ الْمَحَبَّةِ، فَيُفْتَحُ لَهُ مِنْهَا بَابٌ لَا يُفْتَحُ لَهُ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَإِنْ كَانَتْ طُرُقُ سَائِرِ الْأَعْمَالِ وَالطَّاعَاتِ تَفْتَحُ لِلْعَبْدِ أَبْوَابًا مِنَ الْمَحَبَّةِ، لَكِنَّ الَّذِي يَفْتَحُ مِنْهَا مِنْ طَرِيقِ الذُّلِّ وَالِانْكِسَارِ وَالِافْتِقَارِ وَازْدِرَاءِ النَّفْسِ، وَرُؤْيَتِهَا بِعَيْنِ الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ وَالْعَيْبِ وَالنَّقْصِ وَالذَّمِّ، بِحَيْثُ يُشَاهِدُهَا ضَيْعَةً وَعَجْزًا، وَتَفْرِيطًا وَذَنْبًا وَخَطِيئَةً، نَوْعٌ آخَرُ وَفَتْحٌ آخَرُ، وَالسَّالِكُ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ غَرِيبٌ فِي النَّاسِ، وَهُمْ فِي وَادٍ وَهُوَ فِي وَادٍ، وَهِيَ تُسَمَّى طَرِيقَ الطَّيْرِ، يَسْبِقُ النَّائِمُ فِيهَا عَلَى فِرَاشِهِ السُّعَاةَ، فَيُصْبِحُ وَقَدْ قَطَعَ الطَّرِيقَ، وَسَبَقَ الرَّكْبَ. بَيْنَا هُوَ يُحَدِّثُكَ، إِذَا بِهِ قَدْ سَبَقَ الطَّرْفَ وَفَاتَ السُّعَاةَ، فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَهُوَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ.
وَهَذَا الَّذِي حَصَلَ لَهُ مِنْ آثَارِ مَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُ، وَفَرَحِهِ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ، وَيَفْرَحُ بِتَوْبَتِهِمْ أَعْظَمَ فَرَحٍ وَأَكْمَلَهُ.
فَكُلَّمَا طَالَعَ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ قَبْلَ الذَّنْبِ، وَفِي حَالِ مُوَاقَعَتِهِ، وَبَعْدَهُ، بِرَّهُ بِهِ وَحِلْمَهُ عَنْهُ، وَإِحْسَانَهُ إِلَيْهِ هَاجَتْ مِنْ قَلْبِهِ لَوَاعِجُ مَحَبَّتِهِ وَالشَّوْقُ إِلَى لِقَائِهِ، فَإِنَّ الْقُلُوبَ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا، وَأَيُّ إِحْسَانٍ أَعْظَمُ مِنْ إِحْسَانِ مَنْ يُبَارِزُهُ الْعَبْدُ بِالْمَعَاصِي، وَهُوَ يَمُدُّهُ بِنِعَمِهِ، وَيُعَامِلُهُ بِأَلْطَافِهِ، وَيُسْبِلُ عَلَيْهِ سِتْرَهُ، وَيَحْفَظُهُ مِنْ خَطْفَاتِ أَعْدَائِهِ الْمُتَرَقِّبِينَ لَهُ أَدْنَى عَثْرَةٍ يَنَالُونَ مِنْهُ بِهَا بُغْيَتَهُمْ، وَيَرُدُّهُمْ عَنْهُ، وَيَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ؟ وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِعَيْنِهِ، يَرَاهُ وَيَطَّلِعُ عَلَيْهِ، فَالسَّمَاءُ تَسْتَأْذِنُ رَبَّهَا أَنْ تَحْصِبَهُ، وَالْأَرْضُ تَسْتَأْذِنُهُ أَنْ تَخْسِفَ بِهِ، وَالْبَحْرُ يَسْتَأْذِنُهُ أَنْ يُغْرِقَهُ، كَمَا فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا مِنْ يَوْمٍ إِلَّا وَالْبَحْرُ يَسْتَأْذِنُ رَبَّهُ أَنْ يُغْرِقَ ابْنَ آدَمَ، وَالْمَلَائِكَةُ تَسْتَأْذِنُهُ أَنْ تُعَاجِلَهُ وَتُهْلِكَهُ، وَالرَّبُّ تَعَالَى يَقُولُ: دَعُوا عَبْدِي، فَأَنَا أَعْلَمُ بِهِ، إِذْ أَنْشَأْتُهُ مِنَ الْأَرْضِ، إِنْ كَانَ عَبْدَكُمْ فَشَأْنُكُمْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدِي فَمِنِّي وَإِلَيَّ، عَبْدِي وَعِزَّتِي وَجَلَالِي إِنْ أَتَانِي لَيْلًا قَبِلْتُهُ، وَإِنْ أَتَانِي نَهَارًا قَبِلْتُهُ، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِنْ مَشَى إِلَيَّ هَرْوَلْتُ إِلَيْهِ، وَإِنِ اسْتَغْفَرَنِي غَفَرْتُ لَهُ، وَإِنِ اسْتَقَالَنِي أَقَلْتُهُ، وَإِنْ تَابَ إِلَيَّ تُبْتُ عَلَيْهِ، مَنْ أَعْظَمَ مِنِّي جُودًا وَكَرَمًا، وَأَنَا الْجَوَادُ الْكَرِيمُ؟ عَبِيدِي يَبِيتُونَ يُبَارِزُونَنِي بِالْعَظَائِمِ، وَأَنَا أَكْلَؤُهُمْ فِي مَضَاجِعِهِمْ، وَأَحْرُسُهُمْ عَلَى فُرُشِهِمْ، مَنْ أَقْبَلَ إِلَيَّ تَلَقَّيْتُهُ مِنْ بَعِيدٍ، وَمَنْ تَرَكَ لِأَجْلِي أَعْطَيْتُهُ فَوْقَ الْمَزِيدِ، وَمَنْ تَصَرَّفَ بِحَوْلِي وَقُوَّتِي أَلَنْتُ لَهُ الْحَدِيدَ، وَمَنْ أَرَادَ مُرَادِي أَرَدْتُ مَا يُرِيدُ، أَهْلُ ذِكْرِي أَهْلُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute