هَذَا، وَكَمْ جَلَبَتْ خُلْطَةُ النَّاسِ مِنْ نِقْمَةٍ، وَدَفَعَتْ مِنْ نِعْمَةٍ؟ وَأَنْزَلَتْ مِنْ مِحْنَةٍ، وَعَطَّلَتْ مِنْ مِنْحَةٍ، وَأَحَلَّتْ مِنْ رَزِيَّةٍ، وَأَوْقَعَتْ فِي بَلِيَّةٍ؟ وَهَلْ آفَةُ النَّاسِ إِلَّا النَّاسُ؟ وَهَلْ كَانَ عَلَى أَبِي طَالِبٍ عِنْدَ الْوَفَاةِ أَضَرَّ مِنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ؟ لَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى حَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ تُوجِبُ لَهُ سَعَادَةَ الْأَبَدِ.
وَهَذِهِ الْخُلْطَةُ الَّتِي تَكُونُ عَلَى نَوْعِ مَوَدَّةٍ فِي الدُّنْيَا، وَقَضَاءِ وَطَرِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ تَنْقَلِبُ إِذَا حَقَّتِ الْحَقَائِقُ عَدَاوَةً، وَيَعَضُّ الْمُخْلِطُ عَلَيْهَا يَدَيْهِ نَدَمًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا - يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا - لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} [الفرقان: ٢٧ - ٢٩] وَقَالَ تَعَالَى {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: ٦٧] وَقَالَ خَلِيلُهُ إِبْرَاهِيمُ لِقَوْمِهِ {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت: ٢٥] وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ مُشْتَرِكِينَ فِي غَرَضٍ، يَتَوَادُّونَ مَا دَامُوا مُتَسَاعِدِينَ عَلَى حُصُولِهِ، فَإِذَا انْقَطَعَ ذَلِكَ الْغَرَضُ، أَعْقَبَ نَدَامَةً وَحُزْنًا وَأَلَمًا، وَانْقَلَبَتْ تِلْكَ الْمَوَدَّةُ بُغْضًا وَلَعْنَةً، وَذَمًّا مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، لَمَّا انْقَلَبَ ذَلِكَ الْغَرَضُ حُزْنًا وَعَذَابًا، كَمَا يُشَاهَدُ فِي هَذِهِ الدَّارِ مِنْ أَحْوَالِ الْمُشْتَرِكِينَ فِي خِزْيِهِ، إِذَا أُخِذُوا وَعُوقِبُوا، فَكُلُّ مُتَسَاعِدِينَ عَلَى بَاطِلٍ، مُتَوَادِّينَ عَلَيْهِ لَا بُدَّ أَنْ تَنْقَلِبَ مَوَدَّتُهُمَا بُغْضًا وَعَدَاوَةً.
وَالضَّابِطُ النَّافِعُ فِي أَمْرِ الْخُلْطَةِ أَنْ يُخَالِطَ النَّاسَ فِي الْخَيْرِ كَالْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَالْأَعْيَادِ وَالْحَجِّ، وَتَعَلُّمِ الْعِلْمِ، وَالْجِهَادِ، وَالنَّصِيحَةِ وَيَعْتَزِلَهُمْ فِي الشَّرِّ، وَفُضُولِ الْمُبَاحَاتِ، فَإِنْ دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى خُلْطَتِهِمْ فِي الشَّرِّ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ اعْتِزَالُهُمْ فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ أَنْ يُوَافِقَهُمْ، وَلْيَصْبِرْ عَلَى أَذَاهُمْ، فَإِنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يُؤْذُوهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قُوَّةٌ وَلَا نَاصِرٌ. وَلَكِنْ أَذًى يَعْقُبُهُ عِزٌّ وَمَحَبَّةٌ لَهُ وَتَعْظِيمٌ، وَثَنَاءٌ عَلَيْهِ مِنْهُمْ وَمِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَمُوَافَقَتُهُمْ يَعْقُبُهَا ذُلٌّ وَبُغْضٌ لَهُ، وَمَقْتٌ، وَذَمٌّ مِنْهُمْ وَمِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فَالصَّبْرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ عَاقِبَةً، وَأَحْمَدُ مَآلًا، وَإِنْ دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى خُلْطَتِهِمْ فِي فُضُولِ الْمُبَاحَاتِ، فَلْيَجْتَهِدْ أَنْ يَقْلِبَ ذَلِكَ الْمَجْلِسَ طَاعَةً لِلَّهِ إِنْ أَمْكَنَهُ، وَيُشَجِّعَ نَفْسَهُ وَيُقَوِّيَ قَلْبَهُ، وَلَا يَلْتَفِتْ إِلَى الْوَارِدِ الشَّيْطَانِيِّ الْقَاطِعِ لَهُ عَنْ ذَلِكَ، بِأَنَّ هَذَا رِيَاءٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute