وَالثَّانِي: أَنْ يُلْقِيَ فِي قَلْبِهِ عِنْدَمَا يُلِمُّ بِهِ، وَمِنْهُ وَعْدُهُ وَتَمْنِيَتُهُ حِينَ يَعِدُ الْإِنْسِيَّ وَيُمَنِّيهِ، وَيَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء: ١٢٠] وَقَالَ {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: ٢٦٨] وَلِلْقَلْبِ مِنْ هَذَا الْخِطَابِ نَصِيبٌ، وَلِلْأُذُنِ أَيْضًا مِنْهُ نَصِيبٌ، وَالْعِصْمَةُ مُنْتَفِيَةٌ إِلَّا عَنِ الرُّسُلِ، وَمَجْمُوعِ الْأُمَّةِ.
فَمِنْ أَيْنَ لِلْمُخَاطَبِ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ رَحِمَانِيٌّ، أَوْ مَلَكِيٌّ؟ بِأَيِّ بُرْهَانٍ؟ أَوْ بِأَيِّ دَلِيلٍ؟ وَالشَّيْطَانُ يَقْذِفُ فِي النَّفْسِ وَحْيَهُ، وَيُلْقِي فِي السَّمْعِ خِطَابَهُ، فَيَقُولُ الْمَغْرُورُ الْمَخْدُوعُ: قِيلَ لِي وَخُوطِبْتُ، صَدَقْتَ لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي الْقَائِلِ لَكَ وَالْمُخَاطِبِ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِغَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ وَهُوَ مِنَ الصَّحَابَةِ لَمَّا طَلَّقَ نِسَاءَهُ، وَقَسَّمَ مَالَهُ بَيْنَ بَنِيهِ: إِنِّي لَأَظُنُّ الشَّيْطَانَ فِيمَا يَسْتَرِقُ مِنَ السَّمْعِ سَمِعَ بِمَوْتِكَ، فَقَذَفَهُ فِي نَفْسِكَ. فَمَنْ يَأْمَنُ الْقُرَّاءَ بَعْدَكَ يَا شَهْرُ؟ .
فَصْلٌ: النَّوْعُ الثَّالِثُ: خِطَابٌ حَالِيٌّ، تَكُونُ بِدَايَتُهُ مِنَ النَّفْسِ، وَعَوْدُهُ إِلَيْهَا، فَيَتَوَهَّمُهُ مِنْ خَارِجٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ نَفْسِهِ، مِنْهَا بَدَأَ وَإِلَيْهَا يَعُودُ.
وَهَذَا كَثِيرًا مَا يَعْرِضُ لِلسَّالِكِ، فَيَغْلَطُ فِيهِ، وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ، كَلَّمَهُ بِهِ مِنْهُ إِلَيْهِ، وَسَبَبُ غَلَطِهِ أَنَّ اللَّطِيفَةَ الْمُدْرِكَةَ مِنَ الْإِنْسَانِ إِذَا صَفَتْ بِالرِّيَاضَةِ، وَانْقَطَعَتْ عُلَقُهَا عَنِ الشَّوَاغِلِ الْكَثِيفَةِ صَارَ الْحَكَمُ لَهَا بِحُكْمِ اسْتِيلَاءِ الرُّوحِ وَالْقَلْبِ عَلَى الْبَدَنِ، وَمَصِيرُ الْحُكْمِ لَهُمَا، فَتَنْصَرِفُ عِنَايَةُ النَّفْسِ وَالْقَلْبِ إِلَى تَجْرِيدِ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ مُتَّصِلَةٌ بِهِمَا، وَتَشْتَدُّ عِنَايَةُ الرُّوحِ بِهَا، وَتَصِيرُ فِي مَحَلِّ تِلْكَ الْعَلَائِقِ وَالشَّوَاغِلِ، فَتَمْلَأُ الْقَلْبَ، فَتَنْصَرِفُ تِلْكَ الْمَعَانِي إِلَى الْمَنْطِقِ وَالْخِطَابِ الْقَلْبِيِّ الرُّوحِيِّ بِحُكْمِ الْعَادَةِ، وَيَتَّفِقُ تَجَرُّدُ الرُّوحِ، فَتُشَكَّلُ تِلْكَ الْمَعَانِي لِلْقُوَّةِ السَّامِعَةِ بِشَكْلِ الْأَصْوَاتِ الْمَسْمُوعَةِ، وَلِلْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ بِشَكْلِ الْأَشْخَاصِ الْمَرْئِيَّةِ، فَيَرَى صُوَرَهَا، وَيَسْمَعُ الْخِطَابَ، وَكُلُّهُ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَيَحْلِفُ أَنَّهُ رَأَى وَسَمِعَ، وَصَدَّقَ، لَكِنْ رَأَى وَسَمِعَ فِي الْخَارِجِ، أَوْ فِي نَفْسِهِ؟
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute