وَيُبِيحُ لَهُ مَا فِيهِ أَعْظَمُ السُّقْمِ؟ وَالْمُنْصِفُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا نِسْبَةَ بَيْنَ سُقْمِ الْأَرْوَاحِ بِسُكْرِ الشَّرَابِ، وَسُقْمِهَا بِسُكْرِ السَّمَاعِ. وَكَلَامُنَا مَعَ وَاجِدٍ لَا فَاقِدٍ، فَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْخِطَابِ.
وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا: اسْتِدْلَالُكُمْ عَلَى إِبَاحَةِ السَّمَاعِ الْمُرَكَّبِ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنَ الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ بِغِنَاءِ بُنَيَّتَيْنِ صَغِيرَتَيْنِ دُونَ الْبُلُوغِ، عِنْدَ امْرَأَةٍ صَبِيَّةٍ فِي يَوْمِ عِيدٍ وَفَرَحٍ، بِأَبْيَاتٍ مِنْ أَبْيَاتِ الْعَرَبِ، فِي وَصْفِ الشَّجَاعَةِ وَالْحُرُوبِ، وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالشِّيَمِ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا؟ .
وَالْعَجَبُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ أَكْبَرِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ الصِّدِّيقَ الْأَكْبَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمَّى ذَلِكَ مَزْمُورًا مِنْ مَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ وَأَقَرَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذِهِ التَّسْمِيَةِ وَرَخَّصَ فِيهِ لِجُوَيْرِيَّتَيْنِ غَيْرِ مُكَلَّفَتَيْنِ، وَلَا مَفْسَدَةَ فِي إِنْشَادِهِمَا، وَلَا اسْتِمَاعِهِمَا، أَفَيَدُلُّ هَذَا عَلَى إِبَاحَةِ مَا تَعْمَلُونَهُ وَتَعْلَمُونَهُ مِنَ السَّمَاعِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى مَا لَا يَخْفَى؟ فَيَا سُبْحَانَ اللَّهِ! كَيْفَ ضَلَّتِ الْعُقُولُ وَالْأَفْهَامُ؟ .
وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ: الِاسْتِدْلَالُ عَلَى إِبَاحَتِهِ بِمَا سَمِعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحِدَاءِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْحَقِّ وَالتَّوْحِيدِ؟ ! وَهَلْ حَرَّمَ أَحَدٌ مُطْلَقَ الشِّعْرِ، وَقَوْلَهُ وَاسْتِمَاعَهُ؟ فَكَمْ فِي هَذَا التَّعَلُّقِ بِبُيُوتِ الْعَنْكَبُوتِ؟ .
وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا: الِاسْتِدْلَالُ عَلَى إِبَاحَتِهِ بِإِبَاحَةِ أَصْوَاتِ الطُّيُورِ اللَّذِيذَةِ، وَهَلْ هَذَا إِلَّا مِنْ جِنْسِ قِيَاسِ الَّذِينَ قَالُوا {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: ٢٧٥] وَأَيْنَ أَصْوَاتُ الطُّيُورِ إِلَى نَغَمَاتِ الْغِيدِ الْحِسَانِ، وَالْأَوْتَارِ وَالْعِيدَانِ، وَأَصْوَاتِ أَشْبَاهِ النِّسَاءِ مَنِ الْمُرْدَانِ، وَالْغِنَاءِ بِمَا يَحْدُو الْأَرْوَاحَ وَالْقُلُوبَ إِلَى مُوَاصَلَةِ كُلِّ مَحْبُوبَةٍ وَمَحْبُوبٍ؟ وَأَيْنَ الْفِتْنَةُ بِهَذَا إِلَى الْفِتْنَةِ بِصَوْتِ الْقُمْرِيِّ وَالْبُلْبُلِ وَالْهَزَارِ وَنَحْوِهَا؟ .
بَلْ نَقُولُ: لَوْ كَانَا سَوَاءً لَكَانَ اتِّخَاذُ هَذَا السَّمَاعِ قُرْبَةً وَطَاعَةً تُسْتَنْزَلُ بِهِ الْمَعَارِفُ وَالْأَذْوَاقُ وَالْمَوَاجِيدُ، وَتُحَرَّكُ بِهِ الْأَحْوَالُ بِمَنْزِلَةِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ بِأَصْوَاتِ الطُّيُورِ، وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَا سَوَاءً.
وَالَّذِي يَفْصِلُ النِّزَاعَ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثُ قَوَاعِدَ، مِنْ أَهَمِّ قَوَاعِدِ الْإِيمَانِ وَالسُّلُوكِ، فَمَنْ لَمْ يَبْنِ عَلَيْهَا فَبِنَاؤُهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute