للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَصْلٌ.

قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: حِفْظُ الْحُرْمَةِ عِنْدَ الْمُكَاشَفَةِ، وَتَصْفِيَةُ الْوَقْتِ مِنْ مُرَاءَاةِ الْخَلْقِ، وَتَجْرِيدُ رُؤْيَةِ الْفَضْلِ.

أَمَّا حِفْظُ الْحُرْمَةِ عِنْدَ الْمُكَاشَفَةِ فَهُوَ ضَبْطُ النَّفْسِ بِالذُّلِّ وَالِانْكِسَارِ عَنِ الْبَسْطِ وَالْإِدْلَالِ، الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْمُكَاشَفَةُ، فَإِنَّ الْمُكَاشَفَةَ تُوجِبُ بَسْطًا، وَيُخَافُ مِنْهُ شَطْحٌ، إِنْ لَمْ يَصْحَبْهُ خُشُوعٌ يَحْفَظُ الْحُرْمَةَ.

وَأَمَّا تَصْفِيَةُ الْوَقْتِ مِنْ مُرَاءَاةِ الْخَلْقِ فَلَا يُرِيدُ بِهِ أَنْ يُصَفِّيَ وَقْتَهُ عَنِ الرِّيَاءِ، فَإِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ أَجَلُّ قَدْرًا وَأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ.

وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنْ يُخْفِيَ أَحْوَالَهُ عَنِ الْخَلْقِ جُهْدَهُ، كَخُشُوعِهِ وَذُلِّهِ وَانْكِسَارِهِ، لِئَلَّا يَرَاهَا النَّاسُ فَيُعْجِبُهُ اطِّلَاعُهُمْ عَلَيْهَا، وَرُؤْيَتُهُمْ لَهَا، فَيُفْسِدُ عَلَيْهِ وَقْتَهُ وَقَلْبَهُ وَحَالَهُ مَعَ اللَّهِ، وَكَمْ قَدِ اقْتَطَعَ فِي هَذِهِ الْمَفَازَةِ مِنْ سَالِكٍ؟ وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ، فَلَا شَيْءَ أَنْفَعُ لِلصَّادِقِ مِنَ التَّحَقُّقِ بِالْمَسْكَنَةِ وَالْفَاقَةِ وَالذُّلِّ، وَأَنَّهُ لَا شَيْءَ، وَأَنَّهُ مِمَّنْ لَمْ يَصِحَّ لَهُ بَعْدُ الْإِسْلَامُ حَتَّى يَدَّعِيَ الشَّرَفَ فِيهِ.

وَلَقَدْ شَاهَدْتُ مِنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ مِنْ ذَلِكَ أَمْرًا لَمْ أُشَاهِدْهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَكَانَ يَقُولُ كَثِيرًا: مَا لِي شَيْءٌ، وَلَا مِنِّي شَيْءٌ، وَلَا فِيَّ شَيْءٌ، وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَتَمَثَّلُ بِهَذَا الْبَيْتِ:

أَنَا الْمُكَدِّي وَابْنُ الْمُكَدِّي ... وَهَكَذَا كَانَ أَبِي وَجَدِّي

وَكَانَ إِذَا أُثْنِي عَلَيْهِ فِي وَجْهِهِ يَقُولُ: وَاللَّهِ إِنِّي إِلَى الْآنِ أُجَدِّدُ إِسْلَامِي كُلَّ وَقْتٍ، وَمَا أَسْلَمْتُ بَعْدُ إِسْلَامًا جَيِّدًا.

وَبَعَثَ إِلَيَّ فِي آخِرِ عُمُرِهِ قَاعِدَةً فِي التَّفْسِيرِ بِخَطِّهِ، وَعَلَى ظَهْرِهَا أَبْيَاتٌ بِخَطِّهِ مِنْ نَظْمِهِ:

أَنَا الْفَقِيرُ إِلَى رَبِّ الْبَرِيَّاتِ ... أَنَا الْمُسَيْكِينُ فِي مَجْمُوعِ حَالَاتِي

أَنَا الظَّلُومُ لِنَفْسِي وَهِيَ ظَالِمَتِي ... وَالْخَيْرُ إِنْ يَأْتِنَا مِنْ عِنْدِهِ يَأْتِي

لَا أَسْتَطِيعُ لِنَفْسِي جَلْبَ مَنْفَعَةٍ ... وَلَا عَنِ النَّفْسِ لِي دَفْعُ الْمَضَرَّاتِ

<<  <  ج: ص:  >  >>